مايكروفونات (أرشيف)
مايكروفونات (أرشيف)
الخميس 7 مايو 2020 / 21:06

الأشياء التي تعيش خارج القاعة

يقف المسؤول، سنفترض، لتأثيث المشهد، أنه وزير ما، وأنه يحمل حقيبة مهمة، وأن الرئيس يحبه لأمور لا نعرفها ولا نحسن تقديرها، أمور غامضة تتجاوز وعي العامة وفضولهم ورغبتهم الغريبة في معرفة كل شيء، ولذلك يحشره الرئيس، في كل تشكيلة وزارية، ويدفعه نحو أقرب مقعد بطرق مختلفة ولأسباب مختلفة في كل مرة تناسب الظروف، بسبب "الكفاءة" أحياناً وبسبب الوحدة الوطنية في أحيان أخرى، بسبب الجغرافية والمنشأ وبسبب المرحلة، وهي مرحلة لم تتوقف أن تكون حساسة وتاريخية وحاسمة، وبسبب العادة والكاريزما وبسبب الموهبة، لأسباب عاطفية أحياناً ولحفظ التوازنات والقدرة على التكيّف ومواجهة المستجدات، ودائماً بسبب المهارات.

المهارات التي تسمح له بأن يكون في أكثر من تشكيلة وفي أكثر من مكان في نفس الوقت.
دائماً ما يصل مبكراً بشكل إعجازي إلى أي تشكيلة يمكن أن تحدث، وأن يتنبأ بأي تعديل على وشك الحدوث قبل وقوعه، وأن يكون مؤثراً في الحالتين قبل وبعد.

يقف المسؤول على بسطة الدرج، ليس ثمة منصة كما جرت العادة، حيث يمكن العثور على زجاجات المياه المعدنية، وشراشف مكوية، وباقة ورد وأشياء من هذا القبيل تمنح الخطاب، خطاب واحد على أي حال يظهر بصيغ مختلفة بعد إضافة حدث يمكن إدانته، غالباً ما يكون الأمر متعلقاً بادانة ما، ديكور القاعة والإضاءة ولوازم المنصة، والمرافق القريب دائماً من الايماءة المتعالية، كل هذا يمنح الخطاب بعداً بصرياً وتأثيراً مضاعفاً، ينسجم مع البلاغة التي يتمتع بها النص المقروء.

المنبر مكشوف، ومتقشف بشكل محزن، حامل معدني وميكروفون بسيط وضع على عجل خارج القاعة، بسبب الإجراءات الصحية الجديدة التي فرضها الوباء، يقف المرافق خلفه بعيداً في عمق المدخل بحيث يصعب توجيهه عبر الايماءة المقصودة، والتي تمنح المشهد شيئاً من السلطة، على مسافة يجلس عدد من الصحافيين، الشبان غالباً، على مقاعد بلاستيكية تشبه تلك المستخدمة في الأفراح الشعبية ومجالس العزاء، الوزير لا يحب الصحافة، تحديداً هؤلاء الفتيان المأخوذين بالجدل، والمناكفة، وطرح أسئلة غير ضرورية لمجرد الظهور.

يتذكر بحنين جارف الإعلاميين الحكوميين والحزبيين المهذبين، أولئك الذين يوجهون أسئلة مكتوبة ومعدة بعناية، أسئلة تصل مثل سلالم مدروسة، يستطيع الصعود عليها وبناء المشهد المتفق عليه.

أولئك الذين يصلون القاعة وقد أنجزوا وظائفهم وأعدوا الأسئلة والملاحظات المطلوبة بخطوط واضحة على أوراق مطوية بعناية، الذين يكتبون تقاريرهم مبكراً، وقبل الحصول على المعلومة لتوفير الوقت، التقارير التي ستكون جاهزة للنشر، إلى جانب صورة اختارها بنفسه، بمجرد مغادرته القاعة، ولكن هنا خارج القاعة يصعب إعداد المشهد حسب الطريقة المتبعة، ولو أضفنا إلى الوقفة المتقشفة وسائل التواصل الاجتماعي، والمنصات والمواقع الإلكترونية التي جعلت من كل مواطن، تقريباً، صحافياً من منزله، يمكن تخيل الفوضى التي يمكن أن تنشأ عن كل هذا.

يُمكن تذكر تلك التجارب عندما كان الخبر يصاغ مسبقاً ويصل مأموناً وموحداً حتى بالأخطاء اللغوية إلى الصحيفة الرسمية، ووكالة الأنباء الرسمية، دون أن يخسر إشارة واحدة، ودون أن يتعرض للقرصنة.

خارج القاعة تعيش الكائنات الأخرى بعاداتها التي تراكمت خارج النظام، تصبح الأمور أكثر صعوبة، الوقفة المهدورة عرضة للهواء، وأبواق المركبات العابرة، وسيتعثر الإنشاء الذي كان يتمتع بالمتانة والتأثير، ليتحول إلى كيس ملاكمة لأولئك الذين يجلسون خلف أجهزة الكومبيوتر، وهواتفهم المحمولة، وهم يترصدون الأخطاء دون رأفة، كذلك لهؤلاء الصحافيين الذين يحركون الكراسي البلاستيكية دون تحفظ.