"في خطو السرطان" لغونتر غراس.(أرشيف)
"في خطو السرطان" لغونتر غراس.(أرشيف)
الإثنين 11 مايو 2020 / 21:59

في خطو السرطان... عودة التاريخ

لا ينذر غراس بعودة النازيين، بل يتكلم عما يسميه توماس مان "الشر الألماني"، وليست عودة النازيين سوى صورة شبحية لهذا الشرّ

رواية "في خطو السرطان" لـ"غونتر غراس " قد تكون المقابل الأحدث لروايته الأشهر "طبل الصفيح"، فإذا كانت الروايتان تتناولان، وإن من زمنين مختلفين، النازية الألمانية، فإن رواية "في خطو السرطان" هي عن نازية ما بعد سقوط النازية، ولا بد أن نازية اليوم تختلف عن تلك التي سبقتها والتي هي نازيات، وهي هنا نازية غوستلوف الزعيم النازي النمساوي الذي اغتاله يهودي هو دافيد فرانكفورتر لا نازية هتلر. غوستلوف هو من اليسار النازي وهو الذي يرمز إلى المنظمة النازية، القوة من المسرّة التي حققت نوعاً من المساواة الاجتماعية في رحلات السفن التي كانت، قبل الحرب، تجمع الطبقات في المستوى نفسه. سيكون كونراد هو الإعادة المعاصرة لغوستلوف وسيكون دافيد شتريمبلين هو الإعادة المعاصرة لدافيد فرانكفورتر، ولكن بنتيجة معاكسة. هذه المرة لن يغتال فرانكفورتر غوستلوف بل سيقتل غوستلوف أو إعادته، دافيد فرانكفورتر أو إعادته شتريمبلين.

على كل حال نعود إلى رواية غونتر غراس. هذه الرواية لا نجد أبطالها بين شخصياتها الماثلة فيها. أبطالها هم الغائبون عنها، ولا تزال الرواية تستحضرهم أو تستحضر أطيافهم على طولها.

 إذا شئنا أن نجد اسماً ثانياً للرواية فيمكننا القول إنها رواية السفينة غوستلوف، التي بدأت مع صعود النازية كسفينة للرحلات الشعبية إلى البلدان الأخرى. سفينة تجمع الناس من مختلف الفئات والطبقات على قدر من السوية. هذه السفينة التي اتخذت اسم غوستلوف بعد اغتيال هذا الزعيم النازي على يد يهودي عوقب بالمؤبد، لأن النمسا، حيث حصلت الواقعة، ألغت الإعدام. المهم أن السفينة تعرضت بعد أن قامت الحرب، وهي تحمل على متنها مسافروها الكثيرون، إلى صاروخ من غواصة سوفياتية، مما أدى الى إغراق معظم المسافرين ولم ينج منهم إلا القليل، وكان بين النازحين أم الراوي الحامل به، وقد أدى بها الهلع الى أن تلده أثناء الغرق، وستربيه وتأمل الكثير منه، لكنه يخيبها، وها هو يروي القصة التي يبقى في محل جانبي منها، بخلاف الأم التي تملك شخصية قوية ومبادئ متضاربة، فهي النازية القديمة التي كادت تغرق بصاروخ سوفياتي تمجد لينين، الذي تنصب تمثالاً له في بيتها، وترفع صورة ستالين، بل وتمجد قائد الغواصة التي أغرقت سفينتها. نحن نبقى في الرواية نصب السفينة التي تستعاد في تضاعيفها، ونصب الوالدة التي حادت عن ابنها بعد أن خيب أملها، الأمر الذي يحمله الإبن تجاه نفسه. أما من هو الوالد، فهذا أمر تضطرب الوالدة فيه، لكنها تستقر على واحد يتصل به الإبن فيساعده بادئ بدء، قبل أن يتوقف عن عونه. إبن الراوي كونراد الذي تربيه والدته التي انفصلت عن أبيه، لا يلبث أن يتصل بجدته التي تجد فيه عوضاً عن الإبن. الحفيد كونراد يؤسس موقعاً في الكومبيوتر يتقمّص فيه غوستلوف، يمجد ذكراه ويقترح متحفاً له. عن طريق هذا الموقع يحاور يهودياً هو دافيد الذي يتقمّص هو الآخر قاتل غوستلوف. يلتقي الإثنان فيقتل كونراد دافيد، الذي نكتشف بعد ذلك أن ليس هذا إسمه، وإنه، حتى ليس يهودياً.

التاريخ في إعادة هزيلة له. غونتر غراس يشير بالطبع إلى النازيين الجدد، وهم موجودون بالطبع، ولو بأحجام صغيرة لا تقارن بأحجامهم السابقة. لكن الظرف قد تغيّر ونازيو اليوم ليسوا مثل نازيي الأمس، ودوافعهم ومثلهم ليست كدوافع ومُثُل هؤلاء. لكن غونتر غراس ليس بالطبع مؤرخاً وليست الرواية، وإن بنت على التاريخ، تاريخاً. لا ينذر غراس بعودة النازيين، بل يتكلم عما يسميه توماس مان "الشر الألماني"، وليست عودة النازيين سوى صورة شبحية لهذا الشرّ. ليست إعادة التاريخ سوى مهزلته ومكره، وليس تقمّص دافيد لـقاتل غوستلوف وتقمّص كونراد لغوستلوف سوى ذلك.