اجتماع لمجلس الوزراء الفلسطيني برئاسة الرئيس محمود عباس (أرشيف)
اجتماع لمجلس الوزراء الفلسطيني برئاسة الرئيس محمود عباس (أرشيف)
الخميس 21 مايو 2020 / 20:48

حيث يضجر الخشب

لا تتمتع السلطة الفلسطينية التي يقودها أبو مازن بالثقة الشعبية المطلوبة لمواجهة حرب الضم التي فرضت عليها، فقد واصلت، دون تبصر، ارتكاب الأخطاء في محاولتها شراء الوقت، واستغراقها في سياسة الانتظار التي بددت الكثير من مصداقيتها لدى الشارع الفلسطيني.

التحرك المطلوب يتجاوز الدعوة المضجرة إلى اجتماعات هياكل ولجان السلطة القائمة، وهي إطارات لا تحظى بثقة الأغلبية ولا تمثل القوى الفاعلة على الأرض ولا تعكس حركة الشارع

الاستغراق في سياسة الانتظار الطويلة، وما ترتب عليها من ركود سياسي وبطء في قراءة الأحداث، وغياب المبادرة، وغياب الرقابة بمساراتها على القرار السياسي والاقتصادي والثقافي والمجتمعي، انشغلت النخبة السياسية، ومصطلح "النخبة" غير دقيق ولكنه يشير الى القصد، انشغلت بجدل الوشايات وتحويل الخلافات الشخصية إلى قضايا وطنية، والتقريب والإبعاد، والنفي والاستدعاء، بينما كان مشهد العالم الذي يقع خارج النافذة يتغير.

لقد أنجز خلال هذه الحقبة تفكيك تحالف منظمة التحرير، وتفكيك وحدة الضفة وغزة، وضرب وحدة فتح، وتفكيك الشرعيات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية، واستبدالها بشرعية الرئيس، ثم استبدال الحاضنة الشعبية العريضة بحلقة ضيقة من "المريدين" الحفظة لما نطق به الرئيس وترديده، والتسبيح بما سينطق به لاحقاً والتبشير به.

هكذا نشأت البيئة المناسبة التي ينمو فيها الاستعلاء وتجاهل كل ما هو خارج الحلقة بما فيه الشارع، والناس، والرأي العام، حيث تزدهر موهبة اكتشاف المؤمرات وصناعتها، ويسعى الفساد والمصالح الشخصية دون رقابة كمحركات رئيسية لصياغة القوانين وتنفيذ الاجراءات.

الإخوان المسلمون كعادتهم حصلوا على انقلاب وإمارة في غزة خلال ذلك، وهم ينتظرون انهيار بقية السلطة لتوسيع إمارتهم بصفتهم البديل الوحيد المتوفر، كما حدث في سوريا، ومصر، ويحدث الآن في ليبيا.

النهج السياسي هو الذي وفر الشروط لهذه البيئة، وغذاها خلال فترة البيات عبر البحث عن الولاءات بأي ثمن، ولاءات متعددة تشكل في المحصلة شبكة واسعة متدرجة مكتفية بذاتها، تعيش صراعاتها وتعزز مصالحها وتبني مناطق نفوذها وتنتج وسائلها.

ما حول المشهد السياسي الفلسطيني إلى أرخبيل فوضوي من الجزر والممالك الصغيرة التي تواصل ابتعادها عن الأرض العميقة، أين يسعى الناس.

لعل هذا ما يفسر الثغرة الواسعة بين خطاب الرئيس وقراراته، بين رفضه ومعارضته الواضحة لصفقة نتانياهو كوشنر، والأدوات والآليات المتوفرة بين يديه والتي يمكن الاتكاء عليها لمنحه بعض المصداقية وتحريك الخطاب على الأرض.

الأمر أننا حصلنا على خطابٍ بلا قدمين، ولا يملك مهارة السير على الأرض، لدينا نافذة تطلق بالونات كثيرة ولكن لا أحد ينظر إلى النافذة، منذ وقت طويل توقف الناس عن النظر إلى هناك.

دون اتخاذ خطوات حقيقية وسريعة وإحداث تغييرات ذات معنى في البنية الداخلية للسلطة والمنظمة، تشمل الوجوه والخطاب وآليات العمل، سيتحول الموقف الفلسطيني المعلن في خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس، إلى فقاعة إعلامية أخرى في أفضل أحواله.

دون الإصغاء بإخلاص وجدية للأفكار والملاحظات والأسئلة الحقيقية القادمة من خارج الجوقة وأفكار الحاشية وتقارير المنتفعين في زحمة ممرات "المقاطعة"، ستتضاعف العزلة التي تعيشها قيادة السلطة ويضيق الهواء في المقاطعة.

دون التخلص من هذه الحمولة أو معظمها في المرحلة الأولى، ومحاسبتها والتدقيق في مصادر ثرواتها ومراجعة قراراتها، من قرار التعيين الوظيفي إلى إقرار أوجه صرف الميزانيات، وإعلان ذلك للجمهور، سيكون من الصعب المطالبة بثقة الناس.

دون الاعتذار العملي المعلن عن تبديد الائتلاف الوطني الذي أسس منظمة التحرير ودافع عنها ومنحها الحصانة الوطنية وقوة البقاء، على علاته، وإعادة الاعتبار والدور في اتخاذ القرار للمجتمع المدني والمؤسسة الأهلية والكفاءات وحزام المستقلين العريض في الداخل والشتات، سيضاف الخطاب الأخير، بشدّاته وفواصله وشروحاته، إلى نوايا حسنة لعدّائين يحلمون على كراسي متحركة.

هذا ليس سهلاً على الاطلاق، ولكنه ممكن، وليس الأمر تزجية نصائح، وإرشادات من مقاعد المعارضة أو هجاء لأشخاص بعينهم، هو تواصل الطرق على الخزان، الطرق الذي لم يتوقف ويصل الآن من كل الجهات.

التحرك المطلوب يتجاوز الدعوة المضجرة إلى اجتماعات هياكل ولجان السلطة القائمة، وهي إطارات لا تحظى بثقة الأغلبية ولا تمثل القوى الفاعلة على الأرض ولا تعكس حركة الشارع، ويتجاوز إصدار بيانات ليست أكثر من صدى باهت لأقوال الرئيس وحكمته، بيانات تواصل تكرار مفردات وطنية وجمل سياسية محفوظة فقدت قدرتها على التأثير، من باب التوضيح يمكن هنا الإشارة إلى بيان المجلس الوطني لمنظمة التحرير الأخير نموذجاً على بؤس الجوقة وبؤس المؤسسة، وهو بيان بائس يصدر عن مؤسسة بائسة يقودها منذ الأزل أشخاص بائسون، يجري تعزيز بؤسهم وتعميق غيبوبتهم بنشاط بين وقت وآخر.

الخطوة الوطنية الوحيدة الممكنة التي يمكن للإخوة في المجلس الوطني، وهو هنا نموذج من نماذج عديدة ولكن الدعوة عامة، الذين يجلسون على المنصة عادة بما فيهم رئيس المجلس، هي التنحي جانباً، وتفكيك الحاجز الذي يشتغلون ويقيمون فيه، يمكن أخذ أجهزة التنفس معهم، والسماح بمرور الأفكار النابعة من الواقع والراهن، بدل التحصن خلف تاريخ لم يعد موجوداً، وبدل التصرف من داخل أدراج قديمة أين تتفاقم البيانات وتتشابه الخطابات ويضجر الخشب.