الباحث المغربي الأمريكي منصف السلاوي (أرشيف)
الباحث المغربي الأمريكي منصف السلاوي (أرشيف)
الجمعة 22 مايو 2020 / 20:45

هجرة العقول

لم أكن بحاجة إلى أن أكون مغربية، وبأن تضرب جذوري في المملكة مثل جذور الأرغان، لأستشعر وخزة طفيفة في قلبي من تعهّد الدكتور منصف السلاوي بخدمة "بلدنا" في إشارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في حربها ضد كورونا.

ذكّرت نفسي بالسبب الذي يجعلنا أمة تستحق أصلاً أن تُفجع مراراً وتكراراً بهجرة عقولها عنها، فاستعذت من الشيطان الرجيم، وأنهيت النقاش الذي لا طائل منه

علقت كتلة وهمية من الأسى في حنجرتي وأنا أتابع المؤتمر الصحافي لتعيين ابن مدينة أغادير على رأس مبادرة البيت الأبيض لتطوير لقاح ضد الفيروس.

واشتغل في رأسي ذلك الحوار البيزنطي القديم، والذي عادة ما ارتبط برؤيتي للاعبي كرة القدم ذوي الأصول العربية، وهم يضعون أكفهم على صدورهم، ويرددون بحماسة الأناشيد الوطنية للدول الأوروبية.

فجانب من عقلي موافق تماماً على أن الوطن هو ذلك الذي يحتويك، ويوفر لك سبل الحياة الكريمة، والكرامة البشرية، ويؤمن بإبداعاتك ومواهبك، بغض النظر عما إذا قضيت عاماً أو عقداً أو قرناً من الزمن متفيئاً ظلاله.

وجانب آخر من عقلي احتفظ بعاطفيته المفرطة، فلم يستسغ أن تُطلق كلمة الوطن المقدسة إلا على ذلك الذي يحفظ تاريخك، وتسلسل أجدادك، ويستقبل لحظة ميلادك، ويشاهد ترعرعك ونشأتك بين ظهرانيه، وليس ذلك الذي تفد إليه وعمرك44 عاماً، كما في حالة السلاوي مع أمريكا.

ثم ذكرت نفسي بالسبب الذي يجعلنا أمة تستحق أصلاً أن تُفجع مراراً وتكراراً بهجرة عقولها عنها، فاستعذت من الشيطان الرجيم، وأنهيت النقاش الذي لا طائل منه.

كلّل السلاوي مسيرة الـ27 عاماً التي قضاها في بلجيكا بنيله في 1983 درجة الدكتوراه في تخصص البيولوجيا الجزيئية والمناعة من جامعة "ليبر دو بروكسل".

ولأنه كان ولا يزال ابناً باراً ببلده الأم المغرب، عاد الرجل إليها متأبطاً شهادة الدكتوراه، وتوجه بنفسه إلى كلية الطب في جامعة الرباط ليعرض عليهم تقديم المحاضرات بشكل تطوعي في تخصصه.

تبسمت المسؤولة في وجه السلاوي، وصافحته لتحديد تاريخ للمحاضرة الأولى. وأكاد أتخيل خروجه من مكتبها برأس مرفوع فخراً، وعينين تلتمعان أملاً.

إلا أنه بعد يوم فحسب، أُخبر السلاوي بإلغاء محاضرته، دون أي تبرير حتى للاستغناء عنه.

وبعزيمة الشاب الذي غادر منزله في الـ17 لطلب العلم، لم ييأس السلاوي، وطرق أبواباً أخرى داخل المملكة، إلا أن السيناريو ما لبث أن تكرر بشكل مريب ومحبط من كلية الطب في جامعة الدار البيضاء أيضاً. ودون تبرير يشفي صدره.

"لا أريد منهم المال، ولا أي شيء. أريد فقط أن أفيد بلدي"، هكذا قال السلاوي بخاطر كسير لصديقه الأكاديمي كمال المسعودي، قبل أن يستسلم للواقع، ويواصل عمله في الغرب.

ضحكت من نفسي وأنا أتساءل بسفسطائية هل كان يحق للسلاوي أن يصف أمريكا بوطنه.

وضحكت أكثر ممن يتفاخرون اليوم بإنجازاته باعتباره ممثلاً للعقول العربية الفذة، ويصفقون لوصوله إلى البيت الأبيض، وحيازته على ثقة دونالد ترامب.

"يا زيننا ساكتين"، كما يقول التعبير الخليجي الشائع.