الفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي.(أرشيف)
الفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي.(أرشيف)
الإثنين 25 مايو 2020 / 19:36

تشومسكي إذ يرى الكارثة

لا شك في أن الجائحة خطيرة ومؤذية، لكن يثبت الآن أن لها نتائج مهمة قد نراها في وقت قريب، خاصة في ما يتعلق بتموضع الولايات المتحدة وحجمها ومدى تأثيرها على القرار الدولي

في حوار مع وكالة الصحافة الفرنسية، توقع الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي أن تتجه الولايات المتحدة نحو الكارثة في مرحلة ما بعد كورونا لأسباب كثيرة، أورد منها افتقار الدولة الأعظم في العالم إلى ضمان صحي.

بالطبع جاء توقع المفكر اليساري الأبرز في العالم منسجماً مع رؤيته الأوسع لصورة الرأسمالية المتوحشة وأزماتها والأزمات الناشئة عن تغوّلها وسطوتها على القرار في الغرب. لكن هذا التوقع، في نظر الكثيرين، لا يعبر عن هوى شخصي بقدر ما يصور واقعاً قائماً ومرئياً في زمن حكم اليمين التوراتي للولايات المتحدة.

منذ صعوده للحكم بأصوات من حركتهم الشعارات الشعبوية كان دونالد ترامب حريصاً على نقد نظام التأمين الصحي ومحاربته، بالتزامن مع التركيز على دعم وتمكين أرباب العمل وأصحاب الثروات والفئات الأكثر تطرفاً في الاستغلال في إطار ما يختار الغرب تسميته بالسوق الحر.

وربما كان موقف هذا الرئيس الذي يعتبره تشومسكي "معتلاً اجتماعياً" شديد الوضوح في بداية أزمة كورونا وانتشار الوباء في العالم، حين حاول التخفيف من خطورة الوباء معتبراً إياه مرضاً صينياً، ولم يعترف بخطورة الوباء إلا في وقت متأخر وبعد أن أصبحت الولايات المتحدة البؤرة الأكبر لكورونا في العالم.

ومن يتابع تصريحات ترامب منذ بداية تفشي الوباء في أمريكا يلحظ تركيز الرئيس على البعد الاقتصادي ورغبته في عودة آلة الانتاج إلى نشاطها بغض النظر عن مخاطراستئناف النشاط الاقتصادي على المجتمع الأمريكي، كما يلحظ المتابع محاولة الرئيس التهرب من المسؤولية عن الضعف النسبي للنظام الصحي في الولايات المتحدة إلى رمي الكرة في الملعب الصيني واتهام القوة الاقتصادية المنافسة للولايات المتحدة بالمسؤولية عما يعيشه الأمريكيون من أوقات صعبة في زمن الكورونا، وتطيش سهام ترامب أحيانا لتتهم المؤسسات الدولية، ومنها منظمة الصحة العالمية بالمسؤولية عن تفشي الوباء من خلال حجب المعلومات!

لكن الكارثة الأمريكية لا تنحصر في مواقف ترامب وإجراءات إدارته في زمن الجائحة، بل تسبق ذلك بوقت طويل، ومنذ أن بدأت إدارة ترامب في الانسحاب من عضوية المنظمات والأطر الدولية، وتقليص مساهماتها المالية في منظمات أخرى، والبدء في تطبيق سياسة انكفاء تؤدي في النهاية إلى تقليص دور الولايات المتحدة في العالم، واختصار مسؤولياتها في الحفاظ على دورها كمظلة سياسية وعسكرية وأمنية للقوى الاحتلالية والاستبدادية وفي مقدمتها إسرائيل، وبعض جمهوريات الموز في أمريكا اللاتينية.

لا شك في أن الجائحة خطيرة ومؤذية، لكن يثبت الآن أن لها نتائج مهمة قد نراها في وقت قريب، خاصة في ما يتعلق بتموضع الولايات المتحدة وحجمها ومدى تأثيرها على القرار الدولي. وربما يعبر اليمين الحاكم في إسرائيل عن قناعته بهذه الحقيقة حين يحاول الإسراع في تنفيذ خطواته الكبيرة والخطيرة في سياق التوسع الاحتلالي، وإعلان تنفيذ قرار الضم للضفة وغور الأردن قبل فوات الأوان.

لا أحد يعرف مسبقاً شكل التغيير في العالم بعد كورونا، لكن ما صار مدركاً بشكل واسع يؤكد أن أمريكا لن تستطيع الاستمرار في التفرد بالقرار الدولي، خاصة بعد ظهور بوادر كثيرة لخروج أوروبا من تحت العباءة الأمريكية.

ولا أحد يعرف مسبقاً إن كانت هذه الإدارة التوراتية في البيت الأبيض قادرة على البقاء فترة رئاسية ثانية، لكن ما صار مدركاً أيضاً أن ترامب لا يستطيع التبجح بقدرته على الاحتفاظ بالرئاسة، وقد تجيء إدارة ديمقراطية أقل وحشية وأقل انحيازاً لقوى الاستبداد.
هي مرحلة تحول، وننتظر مخرجاتها.