رجل يستريح على رصيف في شارع مقفر في زمن كورونا (أرشيف)
رجل يستريح على رصيف في شارع مقفر في زمن كورونا (أرشيف)
الثلاثاء 26 مايو 2020 / 20:50

موظف يدير وقت العزلة

صار الموظف متوسط الحال يتفنن في قضاء وقته في نهار الصيام وليله مع استمرار هجوم وباء كورونا اللعين، ناسياً التفكير كالعادة، حتى وهو ببيته، في ما تحويه ملفات مكدسة فوق مكتبه بمبنى وزارة العدل، الذي يقع على مقربة من سكنه.

لا شيء يحجب الموت الذي يمرح في الشوارع سوى البقاء في البيت، هكذا أدرك، وليس عليه سوى الالتزام بما انتهى إليه

لم يعد يقبل على قراءة الكتب مثلما كان في شبابه وإلا ما شعر بكل هذا الملل، إنما تمرس على أعمال المطبخ، فالأم طاعنة في السن، والزوجة مشغولة طيلة النهار مع ابنها المريض، والابنة منهمكة في استذكار دروسها استعداداً للامتحان. كل منهن لديها ما يشغلها، إلا هو، فلم يعد يذهب إلى مكتبه سوى ثلاثة أيام في الأسبوع، ولا يقضي الوقت كاملاً في أيام ذهابه، ولم يعد هناك مقهى، والحديث مع الأصدقاء عبر الهاتف يضني أكثر مما يسلي، فكلما سمع صوت أحدهم هزه شوق جارف إلى جلسات المقهى، وانشرخت روحه، وسالت دموعه في عروقه بعد كتمانها، فتلهب مجراها، وتزيده اكتئاباً.

وجد سلواه في المطبخ، يعد المشروبات الباردة للإفطار، والساخنة لما بعده، ويقف لتجهيز المقبلات البسيطة، التي لا تزيد عن بعض السلطات والمخللات، ويتفنن في هذا، مستعيناً بما تعلمه وقت أن عمل، قبل التحاقه بالوظيفة، في مطعم "كبدة ومخ" في حي السيدة زينب، وها هو يجد فرصة لاستعادة هذه الأيام، ويبدو وهو غارق في عمله الجديد، كأنه لا يزال ذلك الصبي الذي عليه أن يجتهد ويحاذر حتى لا ينال توبيخاً من صاحب المطعم.

إنه وقت يحاول فيه أن يقتل السأم، الذي صار يخشى ضرباته القاسية، بل يقتل الوقت نفسه، أو يقضيه في شيء مفيد، بعد أن صارت كل دقيقة يبقاها على قيد الحياة عزيزة على نفسه. يدرك هذا كلما مشي على مهل إلى شرفة شقته، ورفع بصره إلى أعلى ثم أخفضه إلى حيث الأسفلت الساخن، الذي يتخيل أن الوباء يرقص عليه بلا انقطاع في انتظار ضحية جديدة. ألم يقل له الأطباء إن الفيروس اللعين يظل معلقاً في الهواء مدة ليست بالقليلة؟ ألم يظهر أنه لا يتأثر بالحرارة التي تشتد، فأصيب الجميع بخيبة أمل، ولم يعد الصيف نجاة؟

لا شيء يحجب الموت الذي يمرح في الشوارع سوى البقاء في البيت، هكذا أدرك، وليس عليه سوى الالتزام بما انتهى إليه. نعم سمع عن العجوز الذي منع ابنته من زيارته، وأغلق عليه بابه شهرين بعد أن جمع كفايته من الطعام، لكن الوباء غزاه على يد من أحضر له الدواء من الصيدلية. وسمع عن سيدة أحسنت العزلة فأتاها في كيس بلاستيكي كان يحوي طعاماً طلبته من حاتي قريب، لكن هاتين الحالتين اللتين يعرفهما هما الاستثناء الذي يثبت القاعدة، ولا قاعدة مع هذا الغازي المتوحش سوى الاعتزال والحذر والنظافة.

لذلك كان من الضروري أن يجعل من عشرات الأمتار التي يتحرك فيها داخل شقته هي العالم بأسره. كل غرفة قارة، وكل مقعد شاطئ لا نهاية لمتعته الناعمة، وكل آنية مطبخ كامل في مطعم فاخر، وارتطام الأكواب وهي تتأرجح فوق الصينية هو ضجيج الشارع الذي غاب عن أذنيه ليلاً، وهو عائد على مهل من المقهى.

ما يجهزه قبيل الإفطار هو ما التقطه سريعاً من فوق عربات الخضار، بعد أن هدأت السوق القريبة من بيته. من شرفته يرى انسحاب الناس تباعًا، وتقاطرهم مبتعدين في الشارع، فيهبط إلى ما يريد، بعد أن يستعد للمقاومة. كمامة على أنفه وفمه، ونظارة فوق عينيه، وقفاز خفيف على يديه، وقبل هذا استعداد للتخلي عن طريقته المعتادة في التسوق.

كان قبل كورونا يستمتع أحياناً بالوقوف على عربات الكارو الواقفة، في يسراه كيس بلاستيك، ويمناه تلتقط حبات الفاكهة أو الخضار، وترميه في جوفه، وكتفاه تزاحمان الملتفين حول ما يشترونه، فإن عاد إلى البيت قالت له زوجته:

ـ أنت بارع في الشراء.

لم يكن يعرف إن كانت تجامله، ليكفيها معاناة الذهاب إلى السوق أم لا، لكنه كان يفرح لقولها، الذي كان يتكرر على فترات متباعدة، ليس لبخلها في مديحه، إنما لأنه كان غير دائم الذهاب إلى السوق إلا مرات قليلة، تقطعها عادة ما بعد صلاة الجمعة، حين يقف بائعو الفاكهة والخضروات على مقربة من المسجد، يكادون يدخلون فوهات عرباتهم في بابه، ويتنافسون في نداءات زاعقة قبل أن يسلم الإمام التسليمة الثانية.

حين هجم الوباء، قال لزوجته:

ـ سأذهب إلى السوق مرة واحدة في الأسبوع.
نظرت إليه متعجبة، فواصل:
ـ أنا سأكون أكثر حذرَا.

ومن حذره أنه يذهب بينما يستعد الباعة للرحيل، حتى لا يزاحم كتفه أحداً، ويخطف ما يريد سريعاً، فيكون لديه وقت كاف في المطبخ ليلقي إلى القمامة كل حبة معطوبة، دون أي ندم، مثلما كان يحدث في أيام سابقة، فالمهم الآن أنه قد عاد سليماً.