احتياط النقد الاجنبي في تركيا. (المصرف المركزي التركي)
احتياط النقد الاجنبي في تركيا. (المصرف المركزي التركي)
الخميس 1 أكتوبر 2020 / 12:12

كيف سيؤثر تدهور اقتصاد تركيا على مشروعها الإقليمي؟

توقّعت الباحثة في مؤسسة الرأي الأمريكية "جيوبوليتيكال فيوتشرز" كارولين روز مستقبلاً سيئاً لتركيا على المستوى الاقتصادي، وبالتالي على مستوى نفوذها الإقليمي.

حتى يوم الانتخابات، وبغض النظر عن موعدها، ستكون النجاة أولوية الحكومة التركية

في الشهر الماضي، انخفضت الليرة التركية إلى مستوى قياسي هو الأدنى منذ عشرين عاماً، بعدما سحب المستثمرون المليارات من سندات العملة التركية وسوق الأسهم. وفي محاولة صعبة لإبقاء عملتها مستقرة، أطاحت الحكومة بحوالي نصف احتياطاتها من العملة الأجنبية التي كانت لديها بداية العام الحالي. ومع بقاء القليل من السيولة ومع إشراف بنوكها الكبرى على الانهيار، أدركت أنقرة أنّ استراتيجيتها الحالية القاضية بتغذية نموها الاقتصادي عبر الاقتراض الرخيص لا يمكنها الاستمرار.

سبب آخر للقلق.. الأولوية للنجاة
تذكر الباحثة أنّ تركيا وجدت نفسها في هذا الموقف من قبل. منذ سنتين، استهلكت أيضاً جزءاً كبيراً من احتياطاتها الأجنبية لحماية قيمة الليرة وأخفت مشاكل الديون وراء التخلّف عن السداد وعمليات الإنقاذ. لكن الوضع مختلف هذه المرة. تسحب تركيا كميات أكبر بكثير من احتياطاتها الأجنبية وتعتمد فقط على مقايضات العملة القطرية فيما قطاعها المصرفي مستنزف. وإن لم تُدخل أنقرة إصلاحات جوهرية على مؤسساتها المتهالكة بشكل جذري، أو لم تحصل على إنقاذ سخي، فسيقع اقتصادها في مشكلة.

يمكن أن يكون الضغط الاقتصادي عامل تغيير في أي بلد، لكن في تركيا، ومع تاريخها المليء بالانقلابات والعلاقة المعقدة بين العلمانية والإسلاموية، لدى حزب العدالة والتنمية سبب آخر للقلق من التداعيات الجيوسياسية المحتملة التي تنطوي عليها الأزمة. كانت تركيا توسع سريعاً وجودها الإقليمي وتؤثر على سلوك الدول المجاورة عبر التحرك العدواني في شرق المتوسط وفي شمال سوريا. لكن بما أنّ جائحة كورونا ضربت اقتصاداً غارقاً أساساً في المشاكل، ومع اقتراب الانتخابات، سيغير الحزب الحاكم استراتيجيته ليركز على السياسة الخارجية في المنطقة القريبة من البلاد ويجعل الأولوية نجاة النظام مهما كان الثمن.

عطب هيكلي وتكرار الأخطاء
في بداية السنة الحالية، كان لأنقرة بعض المساحة للتنفس. في ديسمبر (كانون الأول) 2019، سجل الناتج المحلي الإجمالي نمواً بـ 0.9% بعد سنة من الانكماش والدين. كانت معدلات نمو الناتج المحلي مدفوعة بسياسات الاقتراض الرخيص الأمر الذي أدى إلى أزمة سيولة وديون مصرفية كبيرة أنتجت تراجعاً بنسبة 30% في قيمة الليرة التركية مقابل الدولار ورفعت التضخم إلى ما يقارب 12% خلال أغسطس (آب) الماضي. ببساطة، كشفت الأزمة نقاط عطب هيكلية عميقة في النظام الاقتصادي التركي. لكن المشكلة هي أنّ أنقرة استمرت في تكرار العديد من الأخطاء نفسها التي ارتكبتها قبل انكماش 2018-2019.

وجهت تركيا البنك المركزي إلى زيادة توزيع القروض الرخيصة مما وضع الضغط على الليرة وأدى إلى زيادة الاقتراض بالدولار من قبل البنوك المحلية لدرء انخفاض قيمتها. عندما بدأ المستثمرون المضاربة ضدّ الليرة، قامت الحكومة باستخدام 65 مليار دولار من احتياطاتها الأجنبية بدءاً من السنة الحالية. في نهاية المطاف، فرضت معدلات الفائدة ضغطاً على البيع فتدهورت قيمة الليرة إلى مستوى قياسي إذ وصل الدولار إلى حوالي 7.7 ليرات في سبتمبر (أيلول) الماضي، حتى مع إبقاء الحكومة الفوائد أدنى من مستويات التضخم الوطني البالغة 11.8%.

تابعت الباحثة أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منع البنك المركزي المستقل اسمياً من تغيير معدلات الفائدة طوال أشهر، خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى ازدياد انكماش مستقبلي سوءاً. فقط في أواسط سبتمبر، قبلت تركيا بتعديل معدلات الفائدة من 8.25 إلى 10.25 مما أعطى الليرة تعزيزاً موقتاً فوصلت إلى 7.62 مقابل الدولار، لكنّ كثراً اعتقدوا أنّ الإجراء جاء متأخراً وأقل من المتوقع.

2023... سنة الانكسارات؟
بطبيعة الحال، سيعاني توقيت خطط أردوغان الطويلة الأجل من المشاكل. كان من المفترض أن تكون سنة 2023 سنة بارزة لتركيا. إنها السنة التي تصادف مرور قرن على ولادة الجمهورية الحديثة وهي سنة الانتخابات العامة التي كان يرسمل الحزب الحاكم عليها لتحقيق فوز مريح. والأهم بحسب روز، إنها السنة التي يُفترض أنها ستشهد تحقيق الوعود الكبيرة. في 2013، طرح الحزب الحاكم سلسلة من الأهداف الطموحة ضمن "رؤية 2023" والتي تحتاج لعقد من الزمن كي تتحقق.

تضمنت الأهداف زيادة في الصادرات السنوية إلى 500 مليار دولار وتخفيض نسبة البطالة من 11% إلى 5% ورفع الدخل الفردي السنوي إلى 25 ألف دولار وتعزيز قطاعات السياحة والمالية وتحقيق المشاركة الكاملة في برامج الرعاية الصحية التي تديرها الدولة. كذلك، شملت الأهداف وضعَ صناعات السيارات والدفاع والحديد والصلب على الخريطة، ودخول تركيا نادي أقوى 10 اقتصادات في العالم مع ناتج قومي يصل إلى 2.6 تريليون دولار.

ووضع القطاع الدفاعي التركي سنة 2023 كهدف له من أجل صناعة تكنولوجيا عسكرية بالغة التطور واعداً بإنتاج 75% من حاجات البلاد الدفاعية وزيادة عائدات الصناعة الدفاعية إلى 26.9 مليار دولار. ووعد القطاع أيضاً بعرض برامج محلية لتصنيع السفن البحرية والمدرعات والمروحيات والدبابات والطائرات من دون طيار.

القضاء على أمل تأجيل الأزمة

لم تكن هذه الأهداف باهظة الثمن وحسب بل افتقرت أيضاً إلى إصلاحات مؤسسية وإعادة هيكلة الاقتصاد بطريقة متزامنة، مما يسمح للبلاد بإدارة مستويات عليا من الإنفاق. وبينما شرعت تركيا تحرز تقدّماً في بعض صناعاتها، بدأت مؤسساتها المالية بالانهيار. على الرغم من جهود خلق انطباع بأنّ البلاد أقلّ غرقاً في الدين مما تبدو عليه، فهمت الحكومة التركية أنه لم يكن بمقدورها منع الانكماش المقبل. كان الوقت محدوداً، لكن الحكومة أمِلت أن تبقى قادرة على الصمود حتى الانتخابات مع تشتيت أنظار الداخل بسلسلة من التحركات في السياسة الخارجية مع نشر إحساس خاطئ بوجود اقتصاد سليم. لكنّ الجائحة جعلت هذا الوضع غير قابل للاستدامة.

بعد أشهر من انتشار كورونا في تركيا، برزت تقارير حول نية جدية لدى أردوغان بإجراء انتخابات مبكرة قبل سنتين ونصف من موعدها الأصلي. أمكن لهذه الخطوة أن تعزله عن تداعيات انهيارات مصرفية مستقبلية ومعاناة اقتصادية وتداعيات محتومة لـ"كورونا"، الأمر الذي يحافظ على قاعدته الشعبية من أجل مواصلة الإمساك بالسلطة. أو هكذا يظن.

وبإمكان الدعوة إلى انتخابات مبكرة منع الأحزاب المعارضة الجديدة من اكتساب الزخم. ينكر أردوغان وجود هذا التوجه ويقول إنّ المعارضة فقط هي التي نشرت هذه الشائعات، لكن روز ترى أنّ الأزمة الاقتصادية قد تجبره فعلاً على تغيير موعد الانتخابات.

الانسحاب من الخليج
اتّخذت تركيا مؤخراً سلسلة تحركات موسعة واستفزازية لتوسيع وجودها بالقرب من محيطها في المتوسط والمشرق والبحر الأحمر والقرن الأفريقي. لكن لمواصلة هذا الزخم، على تركيا التمتع باقتصاد قوي. وتضيف الباحثة أنه لو استطاعت تركيا تجنب هذه العاصفة المالية، فسيكون بإمكانها مواصلة السعي كي تكون قوة إقليمية. لكن لو لم يتحقق ذلك، فسيتوجب على تركيا الصراع فقط من أجل الحفاظ على المكاسب التي حققتها لغاية اليوم.

حتى يوم الانتخابات، وبغض النظر عن موعدها، ستكون النجاة أولوية الحكومة التركية. وتوقعت الكاتبة ازدياد قمع المعارضة وزيادة السيطرة على مؤسسات السلطة ورفع الضرائب وتخفيض الخدمات واقتراض المزيد من المال.

 وستحاول أنقرة التراجع عن بعض أكثر التزاماتها كلفة في الأماكن البعيدة مثل القرن الأفريقي والخليج العربي ودول الساحل وتقليص الواردات العسكرية على أمل أن تكون صناعتها العسكرية الداخلية قادرة على التعويض. ويجب توقع تباطؤ مشاريعها الدفاعية الطويلة الأجل وخصوصاً المشاريع التقليدية التي من المفترض أن تبدأ خلال السنوات العشرين التالية.

مهما فعلت.. الألم لن يخفّ

ستظلّ تركيا تنظر إلى تسييس الفرص التي تسنح في محيطها للحفاظ على الدعم الشعبي ومصالحها الجيو-استراتيجية مثل زيادة الاستقلالية في مجال الطاقة ومنع العنف من الانتشار عبر حدودها الجنوبية والدفاع عن نفسها ضدّ المنافسين الإقليميين وغيرها. وبإمكان أنقرة الحفاظ على ديبلوماسية الزوارق المسلحة في مياه بحر إيجه لإبقاء الضغط على اليونان وقبرص. كما ستواصل عملياتها العسكرية في شمال سوريا والعراق. وهذه الاستراتيجية شعبية في الداخل. لكنّ كل ذلك لن يؤدي إلى تخفيض حجم الألم من تدهور الاقتصاد التركي وفقاً لروز.

فالعمال في المنشآت النووية ومنشآت البناء يعملون من دون أجور مع مباشرة بعضهم إجراءات قانونية واعتراضهم على سوء الإدارة. وواجه العديد من أصحاب الأعمال الصغيرة مشاكل في الحصول على قروض مدعومة من الدولة، بينما يعجز العمال عن الحصول على دعم مالي مما أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر وغياب الأمن الغذائي، وبشكل كبير بين الطبقة الدنيا المحافظة لدى حزب العدالة والتنمية. وهذه الظروف الاقتصادية ستجبر تركيا على تأمين بعض أنواع الدعم الاقتصادي من أجل التأثير على مستقبل الحزب الحاكم.