مرفأ بيروت بعد انفجار 4 أغسطس الماضي (أرشيف)
مرفأ بيروت بعد انفجار 4 أغسطس الماضي (أرشيف)
الأربعاء 28 أكتوبر 2020 / 22:30

التحذير من كارثة مرفأ بيروت بدأ في 2014... الفساد يعمق أوجاع لبنان

كان التحذير الأول من سلسلة تحذيرات كثيرة من شحنة خطيرة في مرفأ بيروت في فبراير (شباط) 2014، وذلك بعد نحو ثلاثة أشهر من وصولها. وأطلق هذا التحذير العقيد جوزف سكاف الذي وصفته أسرته بمسؤول جمارك حازم في عمله.

وأخطر سكاف، الذي كان رئيسا لشعبة مكافحة المخدرات ومكافحة تبييض الأموال، سلطات الجمارك بأن شحنة نترات الأمونيوم "شديدة الخطورة وتشكل خطراً على السلامة العامة".

طلب إبعاد
وفي الرسالة المكتوبة بخط اليد التي اطلعت عليها رويترز وتحققت من صحتها من مصدر مطلع على القضية، طالب سكاف بـ "إبعاد هذه الباخرة عن الرصيف رقم 11 إلى كاسر الموج، وإذا أمكن وضعها تحت الرقابة من قبل تلك الأجهزة الموجودة في المرفأ".

ولم تستطع المصادر معرفة إذا تلقى سكاف، الذي توفي في 2017، رداً على رسالته أو إذا تابع هذا الأمر. وأحال مكتب مدير الجمارك رويترز إلى وزارة المالية التي لم ترد على أسئلة حول هذا التحذير.

يتذكر إيلي شقيق سكاف أن العقيد قال عن الشحنة في 2014: "ما راح نخليهن يفرغوها". وقال ميشال نجل سكاف، إن تصميم والده، على إبعاد السفينة روسوس عن المرفأ يتفق مع شخصيته إذ أنه لم يكن يسمح لمثل هذه الأمور بأن تمر وكان يتصدى لكل ما يراه خطأً.

كانت رسالة سكاف المؤرخة في 21 فبراير (شباط) 2014 الحلقة الأولى في سلسلة من التحذيرات أطلقها مسؤولون في المرفأ، والجمارك، والأمن من شحنة نترات الأمونيوم على متن السفينة روسوس. ولم يأخذ أحد بهذه التحذيرات.

وانتقل سكاف بعد بضعة أشهر إلى موقع جديد تولى فيه منصب رئيس شعبة الجمارك في المطار.

وعقب ذلك نقلت شحنة السفينة روسوس في أواخر 2014 إلى مخزن في المرفأ. وفي 4 أغسطس (آب) الماضي، انفجرت الشحنة ودمرت أحياء بكاملها ما أسفر عن سقوط قرابة 200 قتيل.

وفي نظر سكان بيروت يمثل حطام المرفأ وإهمال تحذيرات سكاف وغيره رمزاً أكبر. و لايزالون بعد ثلاثة أشهر تقريباً من الانفجار ينتظرون نتائج تحقيق وعدت قياداتهم بأن يكشف الحقيقة في غضون أيام.

وتعثرت المساعي الرامية لتشكيل حكومة جديدة غير حزبية بسبب العوامل الطائفية التي تحكم الحياة السياسية في لبنان. وفي غمار هذه الفوضى، لم يبدأ حتى الآن تدفق المساعدات الدولية التي تتوقف على تشكيل حكومة جديدة تعمل على استئصال الفساد.

اغتيال سكاف؟

وتعتقد أسرة سكاف أن وفاته في 2017 كانت جريمة قتل ربما كانت لها صلة بعمله ضابط جمارك يحارب الجريمة وتهريب المخدرات أو لاشتغاله في أواخر حياته بالسياسة.

وتوصل تقرير طبي رسمي صادر في 2017 إلى أن سكاف توفي نتيجة سقوطه. وفي 2018، خلص تقرير ثان بناء على طلب أسرته إلى أنه تعرض لاعتداء.

يعد المرفأ من أنشط الموانئ في شرق البحر المتوسط، وتشير التقديرات إلى أن حجم حركة التجارة عبره في ذروة نشاطه كان يبلغ 15 مليار دولار سنوياً. غير أن 9 مصادر مطلعة تشارك في الشحن والتخليص والإدارة قالت إنه يعاني من الفساد والإهمال والطائفية.

ودعمت وثائق استيراد اطلع أحد المصادر عليها روايات هذه المصادر التسعة.

على شاكلة لبنان
ويعكس حال المرفأ وضع البلاد بصفة عامة إذ توزع الوظائف وفقاً لعوامل طائفية بين الطوائف المسلمة والمسيحية. ويسود هذا الترتيب في لبنان منذ حوالي 30 عاماً، ويعزو كثيرون إليه سبب انزلاق البلاد إلى الانهيار المالي.

وكما قال أحد كبار الوزراء: "مستوى الفساد في كل طبقات الدولة يفوق الخيال. فكم هو حجم الفساد المماثل لفساد المرفأ الذي يختفي تحت عباءات الساسة؟".

وقال إنه تلقى تهديدات تحذره "من التحقيق في الفساد". لكنه لم يذكر تفاصيل.

في أعقاب الحرب الأهلية بين 1975 و 1990 تشكلت لجنة انتقالية تمثل الجماعات السياسية الرئيسية للطوائف لإدارة مرفأ بيروت بصفة مؤقتة. ولا تزال هذه اللجنة قائمة حتى الآن. 

تعيينات طائفية
ويُعتبر حسن قريطم مدير عام المرفأ، على نطاق واسع من الموالين لرئيس الوزراء المسلم السني سعد الحريري، في حين حظيت تسمية بدري ضاهر مديراً عاماً للجمارك، بدعم حزب التيار الوطني الحر الذي أسسه الرئيس المسيحي، ميشال عون.

وأوقف قريطم وضاهر بعد الانفجار  للاشتباه في وجود إهمال تسبب بالقتل. ويقول محامي قريطم إن موكله لا يتحمل أي مسؤولية عن الانفجار.

وقال المحامي، إن التعيينات السياسية أمر شائع في لبنان، لا في المرفأ وحده: "وهذا لا يعني أن كل من يُعين فاسد".

وقال أحد محامي ضاهر، إنه لا يمكنه التعليق ما دام التحقيق مستمراً.

ونفى مكتب الحريري تعيين موالين لرئيس الوزراء في وظائف رئيسية.

وقال مكتب عون الإعلامي إن التعيينات أثناء تولي الرئيس منصبه، بما في ذلك تعيين ضاهر، كانت على أساس "الكفاءة والخبرة".

وقالت ثلاثة من المصادر إن لميليشيا حزب الله الشيعية المدعومة من إيران وجود غير مباشر في المرفأ عبر تجار من حلفائها. 

وقالت المصادر التسعة، إن صنع القرار تعطل وغابت الرقابة وانتشر إفلات المخطيء من العقاب، لأن المرفأ تحت رحمة جماعات متنافسة.

وأكدت لمياء بساط من معهد باسل فليحان المالي، وهي هيئة مستقلة تجري أبحاثاً عن السياسات والحوكمة "هذه الفوضى تلائم الكل. ومن الصعب جداً التغلب عليها".

شركات وخسائر
وتبين دراسة أعدها أساتذة جامعيون بجامعتي أوكسفورد وكولومبيا في 2019 أن 17 شركة من بين شركات الخطوط الملاحية اللبنانية البالغ عددها 21 شركة تربطها صلات ببعض الساسة عن طريق أعضاء مجلس الإدارة، أو المديرين، أو حملة الأسهم.

ويقدر المحلل اللبناني سركيس نعوم أن مليارات الدولارات ضاعت على الدولة في صورة رسوم لم تحصل "بسبب التهريب وتسجيل الفواتير بأقل من قيمتها الحقيقية والسرقة المستمرة" في المرفأ. وأضاف "حتى حراس المخازن أثروا من الرشوة".

وقالت المصادر، إن بعض المستوردين استغلوا إعفاءات من الرسوم ممنوحة لمؤسسات إنسانية ودينية، غطاءً لاستيراد أجهزة إلكترونية، ومواد بناء، وملابس، ومشروبات، وأثاث، ومواد غذائية.

رشاوى
وروى وكيل تخليص جمركي أنه دفع 100 دولار لمفتش في المرفأ لفحص حاوية. وعرض آخر وثيقتين من الجمارك كانت الأولى عبارة عن رفض مسؤولي الجمارك طلبه لتمرير شحنته بسرعة. أما أما الوثيقة الثانية فكانت تقضي بالموافقة على الشحنة.

وأضاف أن الفرق بينهما هو أنه دفع رشوة في المرة الثانية.

وقالت المصادر، إن بعض الحمالين كانوا يتلقون أوامر بإخراج شحنات دون فحصها. وقال نائب الرئيس التنفيذي لشركة الجزائري للنقل  فؤاد بوارشي، إن أجهزة فحص كثيرة مستخدمة في تفقد البضائع لا تعمل على الوجه السليم. وأكد وكلاء ملاحيون آخرون، روايته.

وذكرت المصادر أن إهمال تسجيل القيمة الحقيقية للفواتير حيلة شائعة لتفادي دفع رسوم الاستيراد الكاملة.

وأضافت أن التجار يدفعون الرشوة للساسة ووكلائهم في المرفأ لضمان تقييم الشحنات بأقل كثيراً من قيمتها الحقيقية.

وقالت لمياء بساط التي أجرت أبحاثاً موسعة على النظم الجمركية، إن الجهود الرامية لإصلاح المرفأ بتركيب أنظمة آلية وتطبيق نظام للحد من الفساد قوبلت بمعارضة من كل الأطراف بما في ذلك الساسة، ومسؤولي الجمارك، والمرفأ، ورجال الأعمال.

وقالت: "لا يمكن لأحد أن يتغير دون تغيير النظام كله  طُرح اقتراح لتحديث سلطة المرفأ". ولم يصل هذا الاقتراح إلى مبتغاه. ولم تقدم لمياء المزيد من التفاصيل.

وأوضحت أنها وباحثين آخرين قدموا لسلطات المرفأ دليلاً عن كيفية التعامل مع المواد الكيماوية بما في ذلك النترات. وأضافت "لا يمكن أن تتصور أن يكون البعض بهذه اللامبالاة. هذا يفوق الخيال".

أسرة تبحث عن إجابات
تقول أسرة العقيد سكاف إنه كان يتعامل مع قضايا حساسة خلال فترة عمله في الجمارك، بما في ذلك قضايا المخدرات. وقال المصدر المطلع على القضية إن بعض زملائه كانوا يحذرونه أحياناً ويطالبونه بالحذر بسبب طبيعة عمله.

وفي الساعات الأولى من صباح أحد أيام مارس (آذار) 2017 عثر على سيارة سكاف متوقفة وأنوارها مضاءة قرب مسكنه. وكان رأسه مضرج بالدماء وجثته ترقد على أسفل حافة حائط مكشوف ارتفاعه نحو 1.8 متر.

تقاعد سكاف قبل ذلك بفترة قصيرة ورشح نفسه في انتخابات مجلس النواب عن بلدته في جنوب لبنان. وكان عمره 57 عاماً.

وقال إيلي شقيق سكاف، إن الطبيب الشرعي الأول الذي فحص الجثة أبلغه بأن العلامات عليها تشير إلى تعرضه لاعتداء.

وتوصل تقريران طبيان إلى أن سكاف أصيب بكسر في الجمجمة، وإصابات أخرى منها تورم في العين، وكسر في أحد الضلوع وكدمات.

كان التقرير الأول هو تقرير اللجنة الطبية الرسمية في 2017. وخلص إلى أنه سقط ما أدى إلى نزيف في الدماغ تسبب في وفاته. ولم يذكر التقرير شيئاً عن تعرضه لاعتداء.

ولم يقتنع إيلي فكلف خبيراً في الطب الشرعي بدراسة ملف القضية.

وخلص الطبيب في التقرير الثاني الصادر في 2018 إلى أن إصابات سكاف تشير إلى تعرضه "لعمل عدائي مباغت وسريع نجم عنه سقوطه عن حافة حائط مكشوف".

وأكد التقرير، أن سكاف تلقى "لكمة قوية على عينه اليسرى" و"رفسة محكمة جد قوية طالت أسفل عظمة فص صدره".

وعين إيلي محامياً طلب من السلطات اللبنانية إعادة النظر في القضية.

ولم يرد متحدث باسم قوى الأمن الداخلي التي قال إيلي إنها تتولى القضية على طلب للتعليق. وأحالت وزارة الداخلية رويترز، إلى قوى الأمن الداخلي.

وقال إيلي: "صار لنا شي سنة .. ما عم نعرف شي. ما بقولولنا شي".

ومس كفاح الأسرة للحصول على إجابات وتراً حساساً في بلد نادراً ما يُحاسب فيه المسؤولون.

وقال ميشال نجل العقيد سكاف على وسائل التواصل الاجتماعي بعد انفجار مرفأ بيروت: "نُفذت جريمة في مارس (آذار) 2017. والدي لم ينزلق ولم يسقط. العقيد تعرض لاعتداء وحشي وقُتل أمام منزله. القضية لم تقفل والعائلة تنتظر تحقيقاً جدياً منذ ثلاث سنوات. ملف قضيته على مكتب يتراكم عليه التراب. نحن نريد تحقيقاً حقيقياً جدياً ونريد العدالة، والحقيقة للعقيد جوزف سكاف".