السبت 2 يناير 2021 / 11:31

الإبراهيمية وبابا الفاتيكان

محمد السماك - الاتحاد

قرر بابا الفاتيكان فرنسيس زيارة العراق. والهدف هو زيارة بلدة "أور"، البلدة التي كان يقيم فيها خليل الله إبراهيم عليه السلام. ومنها انطلقت الدعوة الإبراهيمية. كان إبراهيم أول المسلمين، وكان أول من أطلق هذه التسمية على المؤمنين بالله الذين أسلموا له. استمرت الدعوة الإبراهيمية عبر سلسلة من الرسل والأنبياء إلى أن اكتملت برسول الله محمد عليه الصلاة والسلام. فكان آخر الرسل: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً".

باعدت الصراعات بين الإبراهيميين، أي اليهود والمسيحيين والمسلمين. ودفعوا ثمن صراعاتهم غالياً على مدى التاريخ. واليوم تنطلق دعوة للأخوة الإبراهيمية تقوم على قاعدتين: القاعدة الأولى هي "لكم دينكم ولي دين"، و"لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجاً".

والقاعدة الثانية هي الأخوة الإنسانية، فالله سبحانه وتعالى خلق الناس جميعاً من نفس واحدة. ومن هنا تقع عناصر الدعوة الجديدة للأخوة الإبراهيمية في صميم العقيدة الإسلامية. ومنذ أن أصدر الفاتيكان وثيقة "نوسترا إيتاتي Nostra Aetate" في عام 1965، نقل علاقات المسيحية مع الإسلام واليهودية من السلبية والإنكار إلى الإيجابية والاعتراف. ونصّت الوثيقة على "أن الاختلاف مع المسلمين هو اختلاف مع المؤمنين بالله".

صحيح أن الوثيقة لاقت ترحيباً كنسياً عاماً فيما يتعلق بالعلاقة مع الإسلام، لكنها لاقت معارضة واحتجاجاً فيما يتعلق باليهودية. فقد وقع انقسام داخل المجمع الفاتيكاني الثاني حول هذا الموضوع، وانسحب المعترضون من المجمّع، وشكلوا حركة كنسية لا تزال مستمرة حتى اليوم، إلا أنها حركة صغيرة لا تأثير لها.

ويتجسد الالتزام بالتعاليم الكنسية الجديدة في سلسلة المبادرات التي قام بها البابا الأسبق يوحنا بولس الثاني، ثم البابا الحالي فرنسيس الذي اتخذ هذا الاسم، تيمناً بالقديس فرنسيس، أول من أجرى حواراً مع المسلمين (مع الملك الأيوبي الكامل) في مصر أثناء الحملة الصليبية الثالثة.

كان البابا يوحنا بولس الثاني يتطلع إلى زيارة "أور" لإطلاق مسيرة "الأخوة الإبراهيمية"، غير أن الرئيس العراقي في ذلك الوقت صدام حسين لم يتجاوب مع المبادرة، ولم يوافق على الزيارة. هذا الحلم يسعى الآن البابا فرنسيس إلى تحقيقه. وقد رحبت الحكومة العراقية الحالية بمبادرته وقررت تنظيم استقبال رسمي له. ومن المقرر أن تتم الزيارة في شهر مارس(أذار) القادم.

يشجع البابا على هذه المبادرة، التجاوبُ الإسلامي الحار بإحياء علاقات الأخوة الإبراهيمية في إطار الأخوة الإنسانية. وهو الإطار الذي رسمته "وثيقة الأخوة الإنسانية" الموقعة في أبوظبي بين البابا والإمام الأكبر للأزهر الشريف الشيخ أحمد الطيب.

وسبقت ذلك مبادرتان؛ الأولى كانت بين الفاتيكان والمرجعيات الدينية اليهودية. أما الثانية فتمثلت في السينودس (المؤتمر) الذي عقد حول الشرق الأوسط في عام 2010 في الفاتيكان برئاسة البابا السابق بنديكتوس السادس عشر. في هذا المؤتمر حدد الفاتيكان تطلعاته إلى مستقبل مسيحيي الشرق كمواطنين، وأعطى دفعة معنوية جديدة للأخوّة الإبراهيمية من خلال دعوة مسلم (كان لي الشرف أن أكون ذلك المسلم)، ويهودي (الحاخام دافيد روزن) ليلقي كل منهما خطاباً في المؤتمر.

تتابعت بعد ذلك المبادرات، فكانت زيارة إمام الأزهر إلى الفاتيكان، تلتها زيارة بابا الفاتيكان إلى الأزهر في القاهرة بمناسبة انعقاد مؤتمر حول السلام العالمي. وكانت زيارة البابا وإمام الأزهر إلى أبوظبي قمة هذه المبادرات، إذ انبثق عنها صدور "وثيقة الأخوة الإنسانية". وترافقت القمة مع حضور مجموعة كبيرة من العلماء ورجال الدين من كل الأديان (حتى من غير الإبراهيمية) ومن كل القارات.

من هنا تطوي العودة إلى الإبراهيمية بتجلياتها الروحية المتعددة صفحات الصراع بين أحفاد إبراهيم عليه السلام. وهو ما يسعى البابا فرنسيس إلى التأكيد عليه من خلال زيارته المقبلة إلى "أور" في العراق.