شعار جائزة الشيخ زايد.
شعار جائزة الشيخ زايد.
الأربعاء 5 مايو 2021 / 23:26

جائزة الشيخ زايد

جائزة الشيخ زايد تمثل دولة الإمارات الشقيقة، وهي أيضاً تمثل كل العرب، وقد أشعرتنا بكثير من الفخر ونحن نتابع أنشطتها ونلاحظ إنجازاتها منذ بدايتها

 حدث بسيط للغاية ولا يكاد يلتفت إليه أحد أن يعتذر مثقف عن قبول جائزة تكريمية. يحدث كثيراً ولا يُحمّل أكثر مما يحتمل في كل دول العالم السوي. لكن لأننا محاطون بأناس مرضى، فقد تضخم الحدث هذه المرة وفرح به أعداء النجاح من شراذم جماعة الإخوان المسلمين وبقايا اليسار العربي، وطبلت له بعض قنوات الأخبار ومواقع التواصل، وفي مثل هذا يقول أبو الطيب المتنبي:
ومن يك ذا فمٍ مرٍ مريضٍ **** يَجد مُرّاً به الماء الزلالا

شعرت بالبهجة بادئ الرأي، عندما قرأت أن جائزة الشيخ زايد قد اختارت الفيلسوف الألماني وعالم الاجتماع يورغن هابرماس ليكون "شخصية العام الثقافية لعام 2021 تقديراً لمسيرة مهنية طويلة تمتد لأكثر من نصف قرن"، كما جاء في الإعلان. لم كان هذا الابتهاج؟ لأنها كانت فرصة لقيام الفعل التواصلي الذي تحدث عنه هابرماس نفسه، فالتواصل عنده يحمل أكثر من دلالة، فهو تواصل مع الحداثة وتواصل بين الأفراد وتواصل بين المفاهيم. هذا الفعل التواصلي كان النواة لمشروع هابرماس في التأسيس للعقلانية "التواصلية"!

اختيار الجائزة لهابرماس كان مشروعاً ثقافياً لا علاقة له بالسياسة، غرضه تعريف العرب بالفيلسوف الألماني، فالذي تُرجم له إلى الآن قرابة أربعة أو خمسة كتب، وما قرأته منها كله سيئ بسبب الترجمة الرديئة، وهذا معناه أنه لم يُقرأ عربياً نتيجة لذلك، فمعظم الترجمات لكتبه غير قابلة للقراءة بسبب سوء الترجمة. جائزة الشيخ زايد كانت بوابة كبيرة وحقيقية للدخول إلى "المجال" العربي بحسب مصطلح هابرماس، وكل هذا يدخل في "الفعل التواصلي" الذي هو أكبر قضايا الفيلسوف.

لكن الذي حدث هو أن ألاعيب الإعلام والسياسة قد دخلت على الخط فأفسدت اللقاء الثقافي والفعل التواصلي. حقيقة، ينبغي إلا نعتب على هابرماس لأنه شيخ كبير سيبلغ الثانية والتسعين من عمره في الشهر المقبل، والإنسان في مثل هذا السن لا يُعتب عليه كثيراً. أنا على ثقة كاملة بأنه قد قبل بالتواصل مع المسؤولين عن الجائزة، وكان يعرفها جيداً ومن تمثل، وقد قبل بالجائزة التي كانت تكريماً له، لكن مجلة "دير شبيغل" قادت هجوماً شعبوياً شرساً على الفيلسوف العجوز فخاف على بقايا صورة المثقف اليساري الذي كان، فعاد ورفض الجائزة، رفضها بسبب الحملة الشعبية الشرسة التي قادها اليسار ضده، ولم يكن القرار قراره "الحر"، بل قرار من خضع لضجيجٍ ليس صوته. وليت هذا التراجع كان في وسيلة إعلامية أخرى لتأكيد استقلاله. مع الأسف أن الذي أعلن عن تراجعه هي مجلة "دير شبيغل" نفسها التي هاجمته بالأمس، عبر تصريحٍ من ناشر كتبه، فبدا الأمر وكأنه قد تمت استتابته!

هل يجب أن يُحصر فعل التواصل فقط بين الدول التي تقوم أنظمتها السياسية على النموذج الديمقراطي الغربي؟ لا أتصور أن الفيلسوف يمكن أن يقول مثل هذا، لكن لو كان هذا حقاً، فهذا معناه أن المفكر الغربي لم يخرج بعد من نظرية المركزية الأوروبية التي تريد أن تفرض قيمها على العالم بحيث تحدد من خلال معاييرها الخاصة من هم "الأحرار" ومنهم الذين ليسوا كذلك. هذا السعي لفرض القيم الأوروبية على بقية الشعوب إن استشرى فسيمنع، بلا شك، أي فعل تواصلي مثمر، فقضية رفض المركزية الأوروبية هي واحدة من أكبر قضايا المثقفين العرب.

هناك خطأ آخر وقع فيه هابرماس عندما وافق ثم رفض، ولو رفض منذ البداية لكان أهون، ففعله هذا قد أساء به إلى العمل الدؤوب والجهود الحثيثة التي تقوم بها الجائزة. هذه الجائزة تبذل الكثير من الوقت والجهد وتحرص على أن تقوم الاختيارات والمنافسات على أسس علمية وموضوعية لتقييم العمل الإبداعي بلا محاباة لأحد. هذه "النعم" ثم "لا" قد أساءت للقائمين عليها ومن حقهم أن يعتذر منهم الفيلسوف بسبب ما أوقعهم فيه من حرج.

لنعد إلى عنوان المقالة لكي نختم هنا ما أردنا تدوينه، إلا وهو أن جائزة الشيخ زايد تمثل دولة الإمارات الشقيقة، وهي أيضاً تمثل كل العرب، وقد أشعرتنا بكثير من الفخر ونحن نتابع أنشطتها ونلاحظ إنجازاتها منذ بدايتها، وكلنا اليوم ككتاب عرب نقف مع الجائزة أمام هذا التصرف الذي شان تاريخ الفيلسوف وإن كان لا يشين الجائزة ولا القائمين عليها ولا جهودهم المخلصة للقيام بعملهم.