تعبيرية.(أرشيف)
تعبيرية.(أرشيف)
الإثنين 22 أغسطس 2022 / 21:03

المدخل الجمالي ودوره في تفعيل دور اللغة العربية

لا يخفى أنَّ الذوق الجمالي إذا شاع في مكانٍ شاعت فيه السكينة والطمأنينة ونعومة المعاملة وجمال السلوك، وإنْ انعدم في مكان خشُنت فيه المعاملة وساء السلوك

المنهج الجمالي هو منهج نصيٌّ، وهو يُركز على الجانب الشكلي للنصِّ، وقد ظلَّت الظاهرة الجمالية موضوعًا مشتركًا يتناوله بالبحث كلّ من الفيلسوف وعالم النفس ومؤرخ الفنِّ والناقد الأدبي.

الشعوب أو المجتمعات تتميَّز عن بعضها بقدر انتشار القيم الثلاث الخالدة [الحق- الخير- الجمال]؛ فبدونها تنسحب الشعوب من سباق الحضارة، بل من المضمار الإنساني كله، الإنسان يحب الخير ويؤديه لأنَّه جميل، ويتجنَّب الشر لأنَّه يُعكِّر صفو حياته؛ لأنَّه قبيح ولا يحظى بالقبول.

وإن منهج النقد الجمالي هو من أهمِّ مناهج النقد الأدبي في العصر الحديث، فهو مفتاح إجرائي مهم للوقوف على جماليات النصِّ الأدبي، وقوفًا علميًّا مضبوطًا، وكشف خصائصه الجمالية، اعتمادًا على اللغة والأصوات والجمل والصور، هذه العناصر تؤدِّي إلى وظيفة جمالية في النصِّ الأدبي.

وأن الأفكار المجردة تقتل الشعر والأدب، وجمال الوزن في الشعر ضروري؛ لأنه ينظم العواطف، كما يعتبر المتعة وخلق اللذة في الشعر شرطًا أساسيًّا لحصول التعلم، وهو الذي يعني به الإفادة التي سمَّاها أرسطو تطهيراً.
ولا بدَّ أن نتلمس الجانب الجمالي في الأدب الجيد الرصين، وإنني أزعم أن الحس الجمالي الذي كان يعتمده الناقد الأدبي القديم في نقده للنصوص، كان عربياً محضاً، إذ تتميَّز لغتهم بخصوصية بلاغية ونحوية وعروضية ومعجمية وغيرها.

كما أن القيم الجمالية قيم إيجابية، تمدنا بلذَّات حقيقية، وفي المقابل يعتبر عالم الأخلاق عالـمًا من الواجب والإلزام، وعالم الجمال عالم من الحرية والانطلاق واللذة الخالصة؛ لذا تبرز الحاجة إلى تفعيل دور اللغة العربية من خلال المدخل الجمالي وترسيخ وتنمية مهارات الحس الجمالي اللغوي.

وما ندعو له بعد هذه المقدمة، هي محاولة استحداث مادة عن فنِّ ومداخل الجمال- الحقل اللغوي أنموذجاً؛ إذ إنه مما لا شك فيه أن اللغة العربية أساسها البلاغة والفصاحة، كما تتربع بمبادئها اللغوية والنحوية والبلاغية على عرش الجمال، من حيث الانسجام وتوافق المعاني والأصوات والأجراس الموسيقية، فهي ليست لغة بقدر ما هي منظومة فكرية تحمل قيمًا جمالية تعكس البُعد الحضاري للشعوب الإنسانية، لقد آن لنا أن نلقي الضوء على إبراز أدوار وجماليات فن التأثير الجمالي للغة العربية على المتلقي إفادة وإمتاعًا وجمالًا.

لذا تتجلى الضرورة في إعادة النظر في المناهج الدراسية لمقررات اللغة العربية، بحيث يُؤخَذ البُعد الجمالي في الاعتبار عند وضعها، من خلال برامج إعداد المعلِّم، وما يترتب عليها من تطبيقات تربوية، وترسيخ عملية الذكاء الجمالي لدى الطلاب، من منطلق أن المؤسسات التعليمية هي المنوط بها قبل غيرها تعميق القيم الأخلاقية والجمالية لدى النشء والشباب، وهي القادرة على النهوض بهذه المهمَّة.

ولا يعني هذا أن نغفل دور الجانب الأخلاقي؛ إذ إن الأخلاق والجمال متلازمان ودورهما متضافر في بناء الإنسان، وتعزيز قيم الانتماء والولاء، ومواجهة الأفكار الظلامية، ودعم المشروعات الوطنية الكبرى.

وإن المنهج الجمالي لا بد أن يتبنى عناصر رئيسة للتربية الجمالية، وهي: علم الجمال، فلسفة الجمال، المنهج الجمالي، النقد الجمالي، جمالية اللغة، الاخلاق والجمال، الحس الجمالي والذائقة، وغيرها.

كما يعدُّ هذا التطوير مطلبًا ملحًّا يغذّي الحس الجمالي، وينميه من كل زواياه وجوانبه الحيوية، ويسدُّ الثغرة التي بدأت تتَّسع بسبب الكراهية والعنف والظلامية، والتنوير يكمن بالأساس في تفعيل التربية الجمالية، إذ إن علم الجمال عمومًا هو الذي يحرك طاقات الإبداع والابتكار، لأنه يبقي نوافذ الذهن مفتوحة، ويبث الجمال الباطني في إنتاج الخير قبل خلق اللذة في جمهور المتذوقين، فضلًا عن ذلك، فإن اللغة هي التفكیر بصوت مرتفع، فهي الوعاء الذي یظهر من خلاله التفكیر، واللغة هي التي ترسم الطريقة التي يسير عليها المجتمع.

إنَّ التربية الجمالية عمومًا تنمِّي الفضيلة الأخلاقية كما نسمو بغايتها الأدبية، فيكون الطالب مرهف الحس، رقيق الشعور لا متبلدًا ولا جامدًا بل حسن الذوق والتذوق، فتعطى لحياته معنى، ولحياة المجتمع كلها ذوقاً رفيعاً؛ لما لجمال البلاغة والفصاحة من قوة تأثير فاعلة في النفس الإنسانية.

ولم يتوقف النص الأدبي في العصر الحديث عند عمل علوم البلاغة الثلاثة: (المعاني والبيان والبديع)، بل توسَّع ليشمل ما أضيف إلى علوم البلاغة من علوم اللغة (الدلالة، والمجاز، والأصوات، والإيقاع وموسيقى النص)، وأصبح علم جمال النص وثيق الصلة ببلاغة النصِّ.

كما تتجلَّى تنمية الثقافة الجمالية في حاجة الإنسان إلى تنمية مخيلته وحساسيته وشتى قواه الإبداعية، فإن الأسس الجمالية تبقى حاضرة في الدرس النقدي، وتبقى مسطرة يستعان بها، الناقد الجمالي يبحث على الرموز والعناصر، كما يستكشف إيقاع النصِّ والموسيقى، والكلمات وظلالها، والعبارات وصياغتها، بغية تحقيق شمولية متكاملة في عملية الدراسة النقدية، كما یبین لنا كذلك علاقة اللغة بالمواضیع الخارجیة، وهي الثقافة والمجتمع والحدس والفكر، فكلها لها علاقة باللغة، ولا یمكن التخلي عن واحدة منها؛ لأنها تؤدي بنا إلى إنجاح عملیة التواصل.

ولا يخفى أنَّ الذوق الجمالي إذا شاع في مكانٍ شاعت فيه السكينة والطمأنينة ونعومة المعاملة وجمال السلوك، وإنْ انعدم في مكان خشُنت فيه المعاملة وساء السلوك.

وإن الإنسان المعاصر قد ضاق ذرعاً بالتربية العقلية القائمة على الاهتمام بالمنطق وحده، وأصبح يبحث عن التربية الجمالية القائمة على الاهتمام بالمخيلة؛ لأنه إن اقتصرت النظرة للحياة على جانبها النفعي؛ لأصبحت الحياة رتيبة، ولسادتها النفعية والوظيفية، على حساب الأبعاد الروحية والأخلاقية والجمالية للحياة.

إن الثقافة الجمالية ترقِّق مشاعر الأفراد، فلا تنافر ولا أحقاد، فيكون السلام الاجتماعي، ولا صراع ولا أنانية، فيكون التكافل الاجتماعي في أجمل صوره.
وخلاصة القول إن الأخلاق المعاصرة تفتقر إلى الصبغة الجمالية، فالتعلق بالجمال يساعد على التعلُّق بالخير والنفور من الشرِّ، ومن ثم يؤدى إلى تنمية الأخلاق؛ لأن الهدف من تنمية الأخلاق يُعَدُّ من أهمِّ أهداف التربية الجمالية.