تعبيرية.(أرشيف)
تعبيرية.(أرشيف)
الأحد 4 سبتمبر 2022 / 19:39

"التعايش اللغوي" ... مدخل لإحياء التسامح في الحضارة الأندلسيَّة

هذه اللغة لا يشوبها أي قدر من الضعف والتراجع، وإنها بحاجة إلى من يحملون مشاعلها، مسلمين مخلصين لكي تستعيد لغتنا مكانتها السليمة، وتصبح من جديد لغة العلم كما كانت في العصور العربيَّة الزاهية

لا أحد يمكنه أن ينكر أن جمال الثقافة الأندلسيَّة كان عربيًّا خالصًا، فتلك حقيقة تستعصي على الإنكار؛ إذ إنه لولا هذا الفتح لإسبانيا لظلت الثقافات القديمة دفينة ميتة، يُخيِّم عليها سكون القبر ووحشته، فقد ظلَّ حكم العرب ثمانية قرون، كانت أزهى وأغنى العصور للتعايش، فأخذت منابع الرخاء تتَّسع بسرعة تحت ظلال حكومة رشيدة محبَّة للخير.

وإنني أزعم بأن عبقريّة اللغة العربيَّة هي التي أنشأت هذا التاريخ العظيم في الأندلس، والقيمة الأخلاقيَّة- المتميزة- لهذا المظهر الحضاري كان الاحتفاء الكبير بجلال اللغة ورصانتها، والتغني بإيقاعها وشاعريتها، بل أداة لتشكيل الفكر والحسِّ والذوق، عدا عن أنها لغة البحث العلمي.

وهناك ملمح دقيق جدًّا في التأثير كان على الأساس الاجتماعي لهذا المظهر الحضاري، وهو ما أطلق عليه (التعايش اللغوي)، فهو من أهمِّ العوامل التي ساعدت المجتمع الأندلسي على تحقيق التعايش السلمي بكل مجالاته الحيويَّة.

فالشعب العربي الصحراوي في زمن قصير أصبح ندًّا لليونان. إن هذه المنزلة التي بلغها العرب من أبناء الصحراء لم تبلغها شعوب أخرى كانت أحسن حالًا وأرفع مكانة، فقد اتصف الفاتحون بصفات إنسانيَّة رفيعة، وتسامح تضرب به الأمثال من وقفة العرب والإسلام من الشعوب التي انضوت تحت رايتهم، فبعث الله أبناء الصحراء وقد عمرت قلوبهم بالإسلام ودعوته الجادة للعلم والمعرفة. لقد كان في أيدي المسلمين المنهج الاستقرائي العلمي الذي انتقل إلى دوائر العلم والعلماء في الأندلس، فسارعوا إلى إنقاذ الحضارات العقليَّة والعلميَّة من الضياع، فأنقذوها مما يتهددها من الفناء.

كان الخلفاء والأمراء الأندلسيون الأوائل يأمرون أن تدرس اللغة العربيَّة في معاهد المسيحيين واليهود؛ فكان لذلك دوره في التمازج بين أصحاب الديانات المختلفة في الأندلس، فأنتجوا أدباً وشعراً ونثراً وقصصاً وفلسفة وحكمة وأمثالاً وترانيم دينيَّة وموشحات والزجل، فهي أكبر مرحلة من مراحل الرقي اللغوي وصلت إليه إسبانيا، وإن الظاهرة الشعريَّة والقصيدة العصماء تحتل مكانة رفيعة لدى هذا الشعب الأندلسي، بحيث يجد في الشعر ضرورة من ضرورات الحياة اليوميَّة.

كما أن اللغة العربيَّة كانت هي الوسيط الحضاري لبواكير النهضة العلميَّة الأولى في الأندلس، وبعث المعارف الإنسانيَّة بعثاً جديداً، إذ استطاعت أوروبا التخلص من ربقة التخلف والجهل، وبلوغ مرحلة التحرر في الخَلْق والإبداع والإنشاء، ارتفعت القيم الإنسانيَّة والثقافيَّة، وعادت الكرامة والهيبة إلى العلماء والمثقفين والحكماء، يقيناً بأن العقل البشري ليس هو الذي يضيء السبيل أمام النفس البشريَّة، بل هو الوحي الإلهي الذي استطاع أن يخلق المعجزة، ويُحفِّز عبقريَّة اللغة العربيَّة.

ثم كانت مثابرة الحكام والأمراء على نشر الثقافة العربيَّة من خلال مجانيَّة التعليم وفتح المساجد للتثقيف، وحلقة الدرس من الطلاب مفتوحة للجميع، رغم اختلاف البيئة والتربة والثقافة والعقيدة في إسبانيا. فقد نجح العرب في خلق ثقافة متَّحدة قويَّة الأواصر وثيقة الوشائج، وإن إتقان القرآن فهمًا وحفظًا من المقومات الأولى للنهوض، فهو مصدر إلهام ومنهج حياة للإنسان.

وهذا ما حمل الكهنة وأرباب الأديان الأخرى على تعلم اللغة العربيَّة؛ لاكتساب خصائصها العقليَّة والإقناعيَّة والإنسانيَّة؛ ولذا كان التعايش اللغوي- إن صح التعبير- في أفضل تجلياته، وقد لاقت العربيَّة من الترحاب وحسن الوفادة والإكرام ما يجعلها تنطلق انطلاقًا لم تشهد الإنسانيَّة مثيلًا له.
ولكننا نقول من باب الإنصاف، إن تشييد حضارة وثقافة الممالك المسيحيَّة واليهوديَّة كان على جيل وجيش من المستعربين، لا على العروبة الخالصة- أي من جذور عربيَّة- كان أهم روافدها في الثقافة العربيّة.

وكانت العربيَّة هي مصدر الوحي للفنانين والشعراء والأدباء، والشعر العربي كان ما يزال محتفظًا بخصائصه وبلاغته في الأندلس، حيث نتلمس قوة اللغة وجمال الأسلوب، ما يدل على الثروة اللغويَّة العربيَّة الغنيَّة جدًّا.

ولنا أن نتخيل أن الشعر لدى العرب والمستعربة في حينها كان أسلوبًا من أساليب اللغة التي تهيمن على كلٍّ من الفلَّاح في حقله والعالم في مدرسته، والأميرة في خدرها، إلى صياد السمك في الوادي الكبير، والصانع في مصنعه، والأندلسي يقول الشعر في كلِّ مناسبة، أي أن الشعب الأندلسي يمتلك الثقافة اللغويَّة الكافية، والثروة الغنيَّة للمفردات، وإن التمكُّن من البلاغة العربيَّة أذهلت من قبلهم ومن بعدهم!

الأندلس حالة خاصَّة، حالة تحتاج إلى دراسة تأصيليَّة في تعليم العربيَّة للناطقين بغيرها، ولمواجهة طوفان العاميَّة، حيث ما لبثت الشعوب التي خضعت لفاتحي العرب، ورضخت للغتهم العربيَّة، بل وسحرتهم بكمالها وبجمالها، بل وأحبتها وتذوقت حلاوتها وطلاوتها، والولع بالبلاغة والمعاني والبيان، وإظهار براعتهم من كل العلوم، فتجد أثراً لذلك الطراز في مؤلَّفاتهم، وأراجيز في علم الكلام والفلسفة والجبر والنحو، وأمست اللغة العربيَّة هي لغة الدواوين، ولغة التقاضي والسياسة والتخاطب والتجارة والمواصلات والمجتمعات.

كما كان الأساقفة الأسبان أطوع إلى تعلم العربيَّة والعناية بها، فلم تبقَ اللغات الأخرى، وتزحزحت من مكانتها، فقد ماتت اللغة القبطيَّة، والآراميَّة لغة يسوع المسيح عندهم حينذاك، وأخدت اللغات الأخرى تفسح الطريق أمام لغة القرآن وإعجازه، أو بمعنى أصحّ لم تستطع اللغات الأخرى المنافسة أو المزاحمة.

فكما نجد كتبًا وضعها مسلمون ومسيحيون ويهود وصابئون معًا، ورسَّخوا بها دور الكتب العربيَّة، وقيمة الثقافة العربيَّة المتسامحة والمعايشة.
هكذا رسخت العربيَّة في المواطن الأندلسي بكلِّ أطيافه ونِحَله، حتى أصبح منهم شعراء وأدباء وفلاسفة، واستطاعت أن تكوِّن لغة العقول، وتهذِّب الأخلاق، وتسمو بالروح إلى مدارج لم تبلغها أي لغة أخرى.

وكان بعض أهل الأندلس- وهم من الأديان الأخرى- ينظمون من الشعر العربي والنثر والقصيدة المغناة ما يفوق قدرة شعراء العرب فنًّا ولذة وسحرًا طاغيًا؛ لأنهم أدركوا خصائص اللغة العربيَّة وتفوُّقها الإبداعي.

وحينها اعتنت اللغة العربيَّة بتعابير جديدة، واتَّسعت كثيرًا بمخالطة اللغات الأخرى، ولم تتأثر أو تضعف، بل اتسع نطاقها الأدبي والشعري، وذلك عندما تم تقديرها وفهمها واحترامها من الشعب الأندلسي، والاهتمام بفنون اللغة.

الإرث اللغوي والعلمي والمعرفي الذي خلفته الحضارة الإسلاميَّة، كان من أهم المنابع التي ارتوت منها النهضة الإسبانيَّة، والمجتمع الأندلسي، كما كسر جليد التعصب القومي بالتعايش اللغوي، ما لبثت أن أضحت هذه القيمة علامة حياة واستقرار، ما وحَّدهم وألَّف بين قلوبهم. ناهيك عن ذلك، فقد أغنى أدباء الأندلس اللغة العربيَّة بالكثير من المصنَّفات الأدبيَّة والشعريَّة الرفيعة.

إن هذه الحقيقة التي أكدها التاريخ وأثبتها الواقع، تدعونا أن نبني عليها وعياً جديداً أو متجدداً، أن هذه اللغة لا يشوبها أي قدر من الضعف والتراجع، وإنها بحاجة إلى من يحملون مشاعلها، مسلمين مخلصين لكي تستعيد لغتنا مكانتها السليمة، وتصبح من جديد لغة العلم كما كانت في العصور العربيَّة الزاهية.