استديوهات قناة "العربي" الجديدة في الدوحة (العربي)
استديوهات قناة "العربي" الجديدة في الدوحة (العربي)
الإثنين 5 سبتمبر 2022 / 11:23

قبائل الفضائيات العربية الرحّل

هيثم الزبيدي - العرب

يسود جو من الكآبة على الإعلاميين العرب في لندن. ما عادت المؤسسات الإعلامية العربية المقيمة في العاصمة البريطانية تقلّص من عدد موظفيها فقط، بل أن بعضها قرر إغلاق الباب تماماً، وأعاد تأسيس حضوره في دولة من دول الشرق الأوسط. لندن، التي انتزعت صفة عاصمة الإعلام العربي المهاجر من باريس في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، تزيد خسائرها سنوياً إلى درجة عاد من الصعب توصيفها بعاصمة للإعلام بالأصل.

مؤسسات الإعلام العربي أشبه بقبائل الرحّل. الصحف المهاجرة أكثر استقراراً. عدلت الصحف من طريقة الإنتاج بالاعتماد على "ورش توفير" للمصاريف في الدول العربية التي تتواجد فيها وفرة من الكفاءات المهنية الصحفية. صحيفة "العرب" اختارت تونس منذ التسعينات، و"الشرق الأوسط" القاهرة، و"الحياة" بيروت قبل أن تختفي الصحيفة والورشة اللبنانية معها، في حين أبقت "القدس العربي" على مركزية التحرير في لندن بعدد محدود من المنتسبين.

لكن الفضائيات العربية "تجري لا مستقر لها". أول مجد الفضائيات كان من لندن عندما أطلقت "أم بي سي" تلفزيونها التأسيسي مطلع التسعينات. ثم انتشرت الفضائيات مثل الفطر في لندن وتأسست محطات إخبارية وترفيهية. كان هناك الكثير من الكفاءات الصحفية والإعلامية التي يمكن الاعتماد عليها، وتم تعويض النقص باستقدام المزيد من الدول العربية.
إلا أن حالة من عدم الاستقرار سادت الفضائيات. وفيما عدا قرار "أم بي سي" بالانتقال نهائياً إلى دبي (تبين – ولو بعد سنوات طويلة – أنه ليس نهائياً وها هي تبدأ خطوات الانتقال إلى الرياض)، كانت الفضائيات العربية في لندن، أو مكاتبها، تتوسع وتنكمش بدورات سنوية لاعتبارات واضحة مرات، ومطلسمة مرات أخرى. نقول مطلسمة، لأن من غير المفهوم كيف لمحطة أن تنفق مبالغ معتبرة على أستوديوهات متطورة ومبان مجهزة وبنية تحتية بشرية وتقنية، ثم تقرر بعد سنتين أو ثلاث أن تترك كل هذا وتهاجر صوب مركز جديد. أو ربما الأمر مفهوم أكثر من اللازم لدرجة يغيب عن الناظر: إنه الدعم المالي، بزيادته أو نقصانه.

آخر المرتحلين عن لندن الفضائيتان "الغد" و"العربي". قرر القائمان على المشروعين – وهما للمفارقة فلسطينيان – إغلاق مكاتب الفضائيتين في لندن. هناك الكثير من القال والقيل عن أسباب إغلاق كل من القناتين. "الغد" تغلق أستوديوهاتها في لندن لأسباب مالية تقشفية. العمل من أستوديوهات القاهرة أوفر، خصوصاً وأنها تعمل وجاهزة أصلاً. ثمة "خطر" تمصير القناة بحكم التواجد الجغرافي، أي أن يطغي الوجه المصري على البرامج. لكن هذا مقدور عليه بحلول الاعتماد أكثر على مراسلين في عواصم مختلفة، والاستنجاد بالتكنولوجيا لاستضافة مشاركين في البرامج الحوارية عبر تقنيات زوم أو سكايب.

السبب المعلن الذي قدمته قناة "العربي" للانتقال، هو العمل من أرض عربية. هذا سبب لا يستقيم مع أيّ من المعطيات. الدوحة كانت دائماً متاحة لـ"العربي"، وكان اختيار التواجد في لندن خياراً استراتيجياً من البداية كبديل لقناة "الجزيرة" المشاكسة لو حدث وأن بلغت الضغوط السياسية الإقليمية إلى مدى يتوجب إغلاقها أو تحجيمها. ربما السبب الأكثر منطقية هو سبب مالي أيضاً. لكنه ليس تقشفياً بالتأكيد، بل العكس: لندن لا توفر إمكانيات التوسع التي تسعى إليها القناة. الافتتاح المبهر والمبنى الضخم والأستوديوهات الواسعة والطواقم الفنية والتحريرية الكثيرة تروي حكاية ميزانية "انفجارية" تحتاج أن تتحوّل إلى محتوى منافس في عالم الفضائيات المتزاحمة. وحتى قبل أن تنافس "العربي" الفضائيات الإخبارية السعودية والإماراتية، سيكون عليها أن تنافس شقيقتها "الجزيرة" لأن آخر ما تريده "العربي" أن تصبح قناة "لزوم ما لا يلزم".

لعل بعض العزاء كان في السماح لعدد من الإعلاميين بالانتقال إلى الدوحة أو القاهرة لاستكمال العمل. تبقى أعداد المنتسبين في المؤسستين في لندن قليلة بالمقارنة مع المؤسسات الإعلامية العاملة في الخليج.

الذين يحتاجون إلى المزيد من العزاء هم منتسبو الفضائيات السعودية الذين يشهدون انتقال مؤسساتهم من دبي إلى الرياض. ثمة المئات من المنتسبين ممن اعتادوا العيش – أو اعتادت عوائلهم – في دبي. دبي مدينة كوزموبوليتانية بحق وتستطيع أن تستوعب تنويعات الوافدين بلا مشاكل. الرياض لا تزال تخطو أولى خطاها كي تصبح مدينة متنوعة. للدقة، يأتي انتقال "أم بي سي" و"العربية" و"الحدث" و"الشرق" إلى الرياض كجزء من تعزيز سياسة الانفتاح التي تريدها القيادة السعودية الشابة في العاصمة. الإعلاميون العرب ممن سينتقلون من دبي إلى الرياض، سيأتون محملين بنمط حياتي هو ما تسعى إليه العاصمة السعودية. الكثير من هؤلاء قد يختار البقاء في دبي لاعتبارات اجتماعية. بعضهم يحتاج أن يبدأ من جديد في مؤسسات إعلامية إماراتية، وقد يقرر آخرون العودة إلى بلادهم في حال لم تتوفر الفرصة. المشهد في دبي أكثر تعقيدا من المشهد في لندن.

دبي، كما عودتنا دائماً، تستطيع أن تتأقلم مع مثل هذه التغيرات. الإمارات، بقوانينها المرنة، ستبقى قادرة على استقطاب المشاريع الإعلامية العربية، وأن تطلق مشاريعها الخاصة. يمكن القول إن من يفكر بإطلاق فضائية من دبي أو أبوظبي، فإن هذا هو الوقت المناسب لذلك بحكم توفر من سيبقى مختاراً في الإمارات بدلاً من الارتحال إلى السعودية، أو لأن وظيفته في المؤسسة الإعلامية السعودية في دبي تم سعودتها وليس نقلها فقط.

قبائل الإعلام الرحّل غادرت لندن إلى العواصم الخليجية الإعلامية المتنافسة. صعود الرياض سيكون محسوسا لأنها لا تؤسس من العدم، بل تستعيد مؤسساتها من مكان آخر. دبي ستتجدد. أبوظبي بالأصل مقر لأكثر من مؤسسة إعلامية كبيرة. الدوحة المتصالحة مع محيطها مطمئنة الآن إلى أن انتقال "العربي" لن يجعل القناة عرضة لمساومة هدنة مع الجيران. الإعلام لعبة القطريين. حتى القاهرة ترى أن لديها فرصة، سواء بإحياء دورها الإعلامي الذي تآكل بحكم عوامل السياسة والإهمال، أو التأسيس لها أو للآخرين كمدينة إعلامية مليئة بكفاءات تبحث عن فرصة.

المؤكد أن لندن "راحت عليها".