مكتبة محمد بن راشد.
مكتبة محمد بن راشد.
الخميس 13 أكتوبر 2022 / 20:17

القراء الجدد... هل سيلعبون أدواراً افتتاحيَّة أو ختاميَّة لتاريخنا القادم؟

ليس بخافٍ أن أعراض أزمة الوعي المعاصر باتت عميقة، وخصوصاً أننا نرى النخب المفكرة أصبحت سلبيَّة في التعاطي مع المخاطر المحدقة التي تتصدَّر الأمن الثقافي العربي

يتمنى شبابنا العربي المعاصر أن يصبح مهندساً أو طبيباً أو اقتصاديّاً أو قانونيّاً، لكنَّ أحدًا منهم لا يحلم أن يكون كاتباً عظيماً، أو شاعراً موهوباً، أو مفكراً تنويرياً لكي يحفر في العمق؛ ربما لشعور هؤلاء الشباب بأن إعمال العقل بالأفكار المجرَّدة والنظريات قد لا يُجدي نفعًا أو يسدُّ رمقًا للعيش، مع أن الأمم العظيمة خالدة بكتابها من الروائيين والشعراء والمفكِّرين والعلماء والنقَّاد والرسَّامين. هؤلاء هم الوسطاء ما بين الماضي والحاضر، وهم الجسر إلى مستقبل الوطن وازدهاره، والبذرة الأولى هو ذاك القارئ الحصيف والمثقَّف الناقد هما القادران على تغيير سيرورة التاريخ وإخراجنا من التفاهة والسطحية والضحالة التي نحياها.

وإن الألم ليعتصرني حينما أقوم بزيارة مكتبة عظيمة وثريَّة وشاهقة بالمعرفة تروي ظمأ الشغوفين، وتسدُّ رمق المثقفين، ولا ريبَ أن الرغبة في الذهاب إلى المكتبة الغنيَّة متعة كاملة المعنى، ونعمة لا تضاهيها نعمة أخرى؛ لأنها تُبدِّد القلق المعرفي، وتجدِّد أفكارنا.

وإنني أرى أننا بحاجة إلى خلق أجيال صاعدة قادرة على أسطرة الواقع، تمتلك المصداقيَّة والشفافيَّة من أجل تدقيق المعلومة، ولا تتردّد في انفاق الوقت والعمر ليكتسب حقيقة جليَّة، أو تلتمس برهاناً عظيمًا، ولها حظٌّ وفير من الفضول المعرفي والرغبة العميقة في الإيغال في قراءة الكتب والروائع الخالدة، وإنفاق معظم وقتها من أجل قراءة مجلَّد ضخم، أو كتاب من الطراز الفخم، يفتح آفاقها، ويوسِّع مداركها، وتستمدّ من القراءة الدافع لحبِّها للأفكار العظيمة وعشقها للرؤى الملهمة؟

ولقد أضحى الذهاب إلى المكتبات الوطنيَّة والتراثيَّة العربية بالنسبة لقارئ اليوم يشبه المهمة الصعبة، إن لم تكن المستحيلة؛ لأن الرغبة في الاطلاع على قراءة أمهات الكتب عمل مضنٍ بحاجة إلى رغبة صادقة، لا تتناسب في مجملها مع شغف ومتعة العقل الجمعي المعاصر، هذه الثروات العظيمة القابعة على رفوف المكتبات الوطنيَّة والتراثيَّة الكبرى، والتي- للأسف الشديد- نسج فيها العنكبوت بيوتًا.

فقد أصبحنا أمام تساؤل موجع: هل الكتب العميقة والعظيمة والخالدة تستطيع أن تجذب القارئ المعاصر، وتشفي غليله، وتغذِّي نهمه وفضوله وشغفه؟ وهو تساؤل موجع لأن إجابته معلومة سلفًا.

وماذا عن القراء الجُدد؟ إنهم من ينشدون ضالتهم في سرعة «توتير والفيس بوك» وأخواتهما، وإن التفتوا إلى الكتب فهي تلك المستوحاة من إيجاز وسرعة المعلومة مثلما اعتادوا عليها في وسائل التواصل الاجتماعي، كما ألفت ذائقتهم الأخبار المقتضبة والمعلومة المختصرة التي تواكب التقدم التكنولوجي المذهل، والعالم الرقمي، وثورة المعلومات.

أما ما يُكتَب في الراهن فهو كلُّ ما يسهل هضمه، وهو محصور بأعمال تتسم بثقافة الموجز والخلاصة والعصارة في كلِّ شيء، وذلك يجعلنا نؤكد أن ثقافة التنوير والتجديد تعاني من انصراف الشباب الواعد عن هذه المهام العظيمة، فقد تراجعت الثقافة العميقة، بعدما كان يقودها شخصيات مؤثرة وتياراتٌ نخبويَّة على أرفع المستويات الفكريَّة، لكن في الوقت الراهن حلَّ محلَّها ثقافة نمطيَّة استهلاكيَّة ضحلة، تغري بالحصول على المعلومة بكل سهولة، يتصدَّر المشهد أشباه المثقفين وأنصافهم.

هؤلاء هم القراء الجدد، أبناء الثورة والتقنيَّة الحديثة، الذين سيلعبون أدوارًا افتتاحيَّة أو ختاميَّة في التقدُّم والتنمية المستدامة، وفي قيادة ركب الأمة إلى غد واعد ومستقبل مشرق.

إن التحدي الكبير ينحصر في إعداد الأجيال القادمة وتهيئتهم النفسيَّة، وتقوية استعداهم الفكري، لينشأوا متسمين بالصبر والجلد، وأولى خطوات ذلك التحدي هي قراءة تلك الثروات القابعة على الرفوف، وأن يألفوا تلك النوعيَّة من المجلدات الضخمة، من أجل التنقيب عن الحقِّ والحقيقة، والبحث عن المعاني والأفكار العظيمة والرؤى الخلَّاقة، وتطوير هذا الرصيد المعرفي، باستخراج أصوله وقواعده وضوابطه لاستثماره والبناء عليه وتجديده.

وليس بخافٍ أن أعراض أزمة الوعي المعاصر باتت عميقة، وخصوصاً أننا نرى النخب المفكرة أصبحت سلبيَّة في التعاطي مع المخاطر المحدقة التي تتصدَّر الأمن الثقافي العربي، ولا تحرِّك ساكناً تجاه التحوُّلات الحاصلة.

إن هذا الخضم الهائل من التراث المعرفي العريض، هُوَ بحاجة إلى أجيال استثنائيَّة عاشقة لهويتها، ومؤمنة بتراثها ومخطوطاته، قادرة على أن تمعِن النظر في هذا الكنز المدفون القابع فوق رفوف المكتبات القومية الكبرى؛ لأن حضارتنا ومستقبلنا القادم بحاجة إلى ثقافة موسوعيَّة لفرز الروائع من الأعمال التي تسطر وقائع مثيرة من تاريخنا العظيم.

وإنني من هنا أتوجَّه إلى النقاد والمحقِّقين والباحثين، والنخب المنوط بها قيادة شباب الأمة، وأضع على كاهلهم مسؤوليَّة تعديل وإعادة الصورة التاريخيَّة المشرقة، أو تنظيف ما تم تشويهه في الحقبات الماضية، أو محاولة تخليصها مما علق بها من افتراءات واختلاقات ممجوجة، والردِّ عليها بالحجة أو بكتابات منيرة.