الخميس 17 نوفمبر 2022 / 18:23

"كنز الجيل" ترصع سماء الشعر النبطي بدرر فريدة

د. علي بن تميم

كرّم سمو الشيخ خالد بن محمد بن زايد آل نهيان عضو المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي، رئيس مكتب أبوظبي التنفيذي، الشعراءَ والباحثين والفنانين الفائزين في الدورة الأولى من جائزة "كنز الجيل" التي ينظمها مركز أبوظبي للغة العربية - دائرة أبوظبي للثقافة والسياحة، لتكون هذه انطلاقة مميزة لجائزة تسعى إلى أن يكون لها حضور مؤثر بين الجوائز الأدبية العربية.

ويأتي التكريم جزءاً من حفل بهيج ضمن البرنامج الثقافي لمهرجان العين للكتاب، احتفاء بجائزة نهلت روحها واسمها من قصيد الراحل الكبير الأب المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، والتي تعد واحدة من أكثر تجارب الشعر النبطي رهافة واكتمالاً فكرياً وجمالياً. فقد أجاد رحمه الله اختزال معارفه وخبراته في الحياة وتكثيفها في رسائلَ شعرية هي آيات من الجمال، فصار شعره بياناً عن ضمير الناس، ولسان حالهم. وهو القائل رحمه الله:

كمّ صِغْت الشِعْر فَـ اوقاته
صيغةٍ تصعب معانيها
مَعْك كَنْز الجيل ميزاته
فاهم اوّلها وتاليها

إذ وصف رحمه الله الشعرَ بأنه كنز الجيل، ولكن ليس كل قول يمكن وصفه بالشعر ولا بالكنز، إذ حدَّد شروطاً دقيقة لذلك، أولها مناسبة القول للوقت، فما أجمل أن يكون الكلام في وقت الحاجة إليه. ثم أن يكون الكلام ذا صيغة مبنية بمهارة لتعبر عن معانٍ قيمة. ولا يسهل هذا الأمر الا على شاعر فاهم وخبير جمع الحكمة ببدايات الأمور ونهاياتها. هكذا يصبح القيل - أو الجيل وفق اللهجة الإماراتية ـ كنزاً. ومن براعة الاستخدام في هذه الصيغة الدلالةُ التي حملتها كلمة الجيل، إذ ربطت الكنزَ كذلك بالأجيال المتلاحقة فكأن الشعر هو كنزهم المتوارث من الحكمة والمعرفة.

تدين هذه الجائزة بنجاحها أول ما تدين إلى روح الأب المؤسس الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله، وريث حكمة العرب وإبداعهم الشعري. إذ تعد تجربته امتداداً لتجربة شعر الحكمة والتأمل والجمال، منذ امرئ القيس إلى أبي الطيب، وابن ظاهر.

كما تدين بنجاحها إلى القيادة الحكيمة التي تولي سعادة الإنسان نصيبها الوافر من الاهتمام والرعاية، وما الفنون والآداب والشعر والكتاب والمعرفة إلا منتجات سعادة الإنسان في علاقته بالحياة وبالكون وكائناته.

كما كان للاهتمام الكبير الذي أولاه سمو الشيخ خالد بن محمد بن زايد آل نهيان لمفهوم الشعر باعتباره كنزَ الجيل مثلما يتجلى في شعر الشيخ زايد بن سلطان طيب الله ثراه، أثر الشعلة التي أنارت لنا الطريق نحو إطلاق جائزة تُعنى بالشعر النبطي وفنونه ودراساته وترجمته وعلاقته بالفنون الأخرى كالموسيقى والخط والتشكيل.

فالشعر النبطي كنزٌ، حري بنا رعايته وحفظه للأجيال، ودعمُ استمرارهم في الإضافة إليه والإبداع فيه واستخدامه أداة جمالية ومعرفية، للتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم وحياتهم، كما دأب أسلافهم على التعبير عن حياتهم شعراً، ليصل تيار الوعي الفني والإنتاج الإبداعي بين الأجداد والأحفاد، فيحيا بيننا لون فني تراثي أصيل يكتنز ثقافة المجتمع وتاريخه وعاداته وتقاليده ولغته وآماله وأحلامه في صور فنية جزلة وثرية مما يسهم في تعزيز ملامح هويتنا الحضارية.

وقد رصعت الدورة الأولى من جائزة "كنز الجيل"، نخبة فريدة من المبدعين والمبدعات أضيفت إلى سجل الفكر والإبداع الذي تسطر أبوظبي كل يوم في صفحاته المزيد من الألق، فجاء فوز الشاعر عبيد بن قذلان المزروعي من الإمارات، في فرع «المجاراة الشعرية» وقد تميزت أعماله بالقدرة على التماهي دلالياً وبلاغياً مع أجواء قصيدة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه. ووظف معجمه الشعري لبناء نص يحتفي بالقصيدة، وبالراحل المؤسس ومنظوره الإنساني ونبرته المتميزة، والشاعر سالم سيف الخالدي من الإمارات، في فرع «الإصدارات الشعرية» إذ قدّم في ديوانه «طيب القلب»، نصوصاً ترابطت فنياً ولغوياً كاشفة عن عمق تجربته وتمكن، والفنان عبدالقادر داودي من الجزائر، في فرع «الفنون» إذ وظف الخط المغربي الأندلسي ببراعة في لوحة «الله عطانا خير وأنعام» من قصيد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيَّب الله ثراه، والدكتورة عائشة علي الغيص من الإمارات، في فرع «البحوث والدراسات» بكتابها المميز «براعة الاستهلال في الشعر النبطي الإماراتي"، والدكتور خالد المصري من الأردن- الولايات المتحدة الأمريكية، في فرع «الترجمة» إذ برع في نقل 86 قصيدة من فرائد الحكمة والقيادة والحب من أشعار الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، إلى اللغة الإنجليزية، في ديوان "ابسم عسى تبسم حياتك"، والمستشرق والدبلوماسي الهولندي مارسيل كوربرشوك، في فرع «الشخصية الإبداعية» لجهوده المقدّرة في توثيق أشعار القبائل البدوية في الجزيرة العربية على مدار ربع قرن، ونشرها باللغة الإنجليزية.

لقد كانت جائزة "كنز الجيل" قبل أسابيع قليلة حلماً نطمح لتحقيقه، واليوم وقد صارت حقيقة نفخر بها علينا أن نقول إن نجاحنا هذا -بعد التوفيق من رب العالمين- إنما هو بفضل الرؤية والتوجيه الفريدين من سمو الشيخ خالد بن محمد بن زايد آل نهيان، الذي يؤمن بأن ما يذخر به الشعر النبطي من كنوز لن يزخر بها إلا عبر طريقين يستكمل كلٌّ منهما الآخر: الحفظ والفهم.

أما الحفظ فوسيلته التكرار والوفرة، علينا توفير هذه الذخائر للأجيال وتكرار عرضها عبر أشكال التواصل المناسبة لهم، بكل ما أتاحه العصر من تنوع وتعدد في وسائل الإعلام والتعليم والبث، وعبر أشكال الإبداع المختلفة من موسيقى وغناء وتشكيل ومسرح ودراما وغيرها.

أما الفهم -وعليه التعويل - فوسيلته الدرس والبحث العلمي والتحليل والتدقيق المنهجي والشرح المنضبط حتى نتمكن من تذويب آلاء الشعر النبطي العظيمة في مفردات الثقافة المعاصرة فتنحو بها نحو مزيد من أصالة الحضور في العصر، كما هو الحال في كل تجربة نهضة الإمارات العربية المتحدة المتألقة برؤية وحكمة قادتها الكبار.

والشكر موصول إلى معالي محمد خليفة المبارك رئيس دائرة الثقافة والسياحة الذي يؤكد دوماً أن دعم الأصالة يكمن في تجديدها ورفدها بالمبادرات ضمن المعايير والمؤشرات العلمية العالمية المنضبطة. والشكر للجنة العليا للجائزة برئاسة سعادة عيسى سيف المزروعي، نائب رئيس لجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية في أبوظبي، إذ كانت اللجنة بما لها من خبرة ودراية ومعرفة وراء نجاح جهود لجان التحكيم التي ضمت نخبة بارزة من الباحثين والمبدعين.

لقد انطلقت من أرض العين مدينة الإبداع والثقافة والأصالة نجومٌ رصعت سماء الإمارات وأضافت لكنوزها بعض الدرّ الثمين من أثر زايد الخير رحمه الله.