تعبيرية.
تعبيرية.
الأحد 11 ديسمبر 2022 / 17:46

كتب عظيمة... ذائقة سليمة

القارئ المعاصر يُعاني خلطًا في المفاهيم والتصوُّرات؛ لأنه لا يقرأ الكتب العظيمة الثرية المنصفة، التي هي أداة التثقيف المتين والفكر الراسخ الأصيل


إننا العرب بحاجة ملحَّة إلى التراث الفكري القديم الذي يمثل الفكر الوسطي، فإن نفض الغُبار عنه هو القادر على إخراجنا من مرارة الواقع السيئ، وإن معالجة هذا الواقع تحتاج إلى بناء الأساس الثقافي في الجيل الحالي، ولا يتأتى هذا إلا بالربط بين الماضي والحاضر، خصوصًا في هذه الفترة التي نعاني فيها صراعات فكرية وعقائدية وطائفية.

ونأمل أن نُوجد قارئًا مُلهمًا، يدحض الأفكار الباطلة الحالية، ويُظهر فسادها، ويُحاربها في مهدِها، من خلال قراءة الكتب التي تمثِّل الإنصاف والنزاهة، وإظهار مواطن الحقِّ، لأن تلك الثقافة ستدفعه نحو البحث والتحليل الرصين الذي يبيّن مدى قدرته على تفسير كلِّ الظواهر السياسية والثقافية، فلا بدَّ أن نعرف أن المكان الذي سنكون فيه غدًا هو الذي تأخذنا إليه اليوم أفكارنا وقراءاتنا وذائقتنا الواعية.

ومن نافلة القول أن أقرِّر أن القراءة ليست خيارًا ولا اختيارًا عاديًّا أو ترفًا، فهي من أهم وأعمق الأنشطة الإنسانية وأكثرها خطورة، وإن التحدِّي الحقيقي هو كيفية جعل هذا الجيل قارئًا مقيمًا في حضرة الكتب الخالدة. هل أمّة اقرأ تقرأ كل الكتب العظيمة؟

وإن المنجزات العصرية قد أحدثت في حياتنا ما لم يكن فيها، فقد طرأ على الإنسان المعاصر تغيير نوعي لذائقته، لا سيَّما أنّ لكلِّ جيل مركز اهتمام تحدّده ضرورات الحياة، كما لا بدَّ للإنسان المتحضِّر أو المعاصر أن تكون له ذائقة لها نسق خاص ومتجدّد.

لكن ما الأجواء التي تقوي هذه الذائقة؟ وكيف يمكن للمرء أن يؤسِّس لذائقة واعية ناضجة قادرة على تغيير مسار حياته؟ وما الأفكار الخلَّاقة التي ترفد الذائقة الناضجة والمثقَّفة التي تمتلك آلية التفريق بين الغث والسمين؟ كلها أسئلة تطرح نفسها وتنتظر إجابات شافية.

لا محيص بأن الكتب العظيمة التي غيرت التاريخ أو تلك الكتب التي أسهمت في نهضة أَّمتنا بكلِّ روافدها الغنية، حتمًا هي تلك الكتب المعتدلة في منهجها، الراسخة في أصولها ومفهومها، حيث تعدُّ من أهمِّ المصادر وأدقِّها وأقربها للحقِّ، بحيث تُغني عن سواها في مجالها، هذا دون أن نكون أوصياء على الشباب فيما يقرؤونه أو فيما ينشطون فيه.

ومما له صلة بشأنِ القراءة أن الأمَّة عانت في الحقبة المنصرمة من آثار التزمُّت الديني المقيت؛ ما أجهز على وعيها وذائقتها، وأحاطه بالجمود والتعصُّب، وهو ما أخلَّ بمعايير الذائقة الجمعية، من خلال تعبئة العقول الطريَّة، وتكبيلها بمفاهيم الغلوِّ والكراهية للمختلف معه، فتعطَّل كلُّ ميزان للذائقة العربيّة المسلمة، وابتعدت عن كلّ الاعتبارات الإنسانيّة، وأهملت الغايات النبيلة، وهذا بدوره أضعف الحسَّ الإنساني، بما يتنافى مع الفطرة السليمة.

وإن ما عانيناه من كوارث وأحداث دمويَّة هو نتاج خلل في الذائقة الإنسانيّة، بسبب غياب القراءة الواعية الثرية، التي تعمل على تجويد الذائقة الجمعية المساهمة في البناء والحداثة، في ظل عزوف الشباب عن قراءة الكتب النوعية.

والمؤسف أن هناك حالات من العادات المألوفة في القراء الشباب، تتمثل في القراءة السطحية الخالية من النوعية، تلك القراءة لتلك التي لا تعطي ذلك الزخم المعرفي، ولا ترفع العقل أو تغذي الفكر، من خلال الكتب التي تفتقر إلى المردود الثقافي في كُتيبات مختصرة لا تُغني ولا تُفيد، وغالبًا ما يلجأ إليها القارئ لسهولة حملها وبساطة محتواها، وقد يقول قائل المهم أن يقرأ وتفتح آفاقه للمعرفة، ونرد على هؤلاء أن القراءة لا بدَّ أن تكون مقنَّنة وأن تكون مخططة.

وإذا ضربنا مثلًا لذلك التخطيط المؤسسي للقراءة نذكر بكل إعجاب التجربة الغربية التي اختصرت الأمر للشباب المتطلع، وجمعت الكتب النوعية في تراثهم في ستين مجلدًا ضمن سلسلة «الكتب العظيمة في الحضارة الغربية».

إن اللوم على هذا التقصير موجَّه إلى أهل الاختصاص من العلماء والأدباء والمسؤولين، في عدم توجيه الشباب نحو اختيار الكتب المهمة التي ترفع من ثقافتهم، وتُكسبهم العمق والوعي، قبل أن تتحكّم في اختياراتهم وذائقتهم ورؤاهم إرادات خارجية؛ لكي لا تصبح العقول والذائقة الجمعية مثل المستنقع الآسن الذي لا تتحرك مياهه.

الذائقة الواعية تتطوّر وتتَّسع بحسب نموِّ وتجدُّد وعينا وتحضُّرنا، وبحسب تعارفنا واختلافنا واختلاطنا مع الشعوب، وكيفية استفادتنا من الثقافات الأخرى، ومدى الاعتدال والوسطيّة في تديننا وأفكارنا ومفاهيمنا، خصوصًا أن صياغة رؤاها يبدأ في البواكير الأولى من التنشئة، ليتشكل لدينا حسٌّ إنسانيٌّ عالٍ، وذوق رفيع ينم عن عقلية منفتحة تتقبل كلَّ ما هو جديد وصالح، وتحارب التطرف والإرهاب بوصفها ثقافة متهاوية أخلت بالذائقة قبل أن تكون طريقة تدين، فالمسؤولية في هذا تقع على عاتق الثقافة القاصرة، والفهم المغلوط والتفسير الشاذ، والعقلية الأحادية.

القراءة الواعية والثقافة السليمة تعتبر حائط الصدِّ في وجه انحراف وعي المجتمع؛ لأن الثقافة النيرة تعتبر مهمَّة عاجلة من أجل التجديد في غير الثوابت، ولصياغة المشهد السلمي والحضاري للأمة، وخلق ثقافة دينية تتسم بالتسامح والتعايش، بعيدًا عن أي محاولات لتشويه ثوابت الدين ذات النص القطعي.

وينبغي أن أؤكد في النهاية أن القارئ المعاصر يُعاني خلطًا في المفاهيم والتصوُّرات؛ لأنه لا يقرأ الكتب العظيمة الثرية المنصفة، التي هي أداة التثقيف المتين والفكر الراسخ الأصيل، تلك الكتب التي لا بدَّ أن يُوصي بها أولو العلم؛ كي لا يكون شبابنا ألعوبة في يد التيارات المتطرفة والجماعات والأحزاب الطائفية التي تستهدف ذلك الشباب المتطلع للمعرفة.