حارس أمام أحد فروع سيليكون فالي في كاليفورنيا بعد إغلاق المصرف المفلس (أرشيف)
حارس أمام أحد فروع سيليكون فالي في كاليفورنيا بعد إغلاق المصرف المفلس (أرشيف)
الأربعاء 15 مارس 2023 / 11:30

إفلاس سيليكون فالي.. تبدد وهم "درس الأزمة العالمية" في 2008

24 - سليم ضيف الله

اهتز عالم المال والأعمال في بداية الأسبوع على وقع السقوط المدوي لبنك سيليكون فالي الأمريكي، مصرف شركات وادي التكنولوجيا في كاليفورنيا والشركات الناشئة المتخصصة في التجديد التكنولوجي والعلمي، ليخلف تسونامي، امتد من المحيط الأطلسي إلى الهادئ، ومن شمال كندا الغارق في الثلوج، إلى رمال الصحراء على ضفاف الخليج العربي.

واستمرت ارتدادات الهزة العنيفة تضرب أسواق أوروبا، وآسيا، والشرق الأوسط منذ يوم الإثنين، من ذلك تراجع الأسواق الخليجية أمس الثلاثاء مثلاً، حسب "كامكو إنفست" بأكثر من 52 مليار دولار، بينها حوالي 33 مليار دولار في السعودية وحدها، ما يؤشر بوضوح على المخاوف التي هيمنت على المستثمرين والمتداولين من توسع دائرة الأضرار المنتظرة بعد انهيار البنك الأمريكي، والمصرفين الأصغر سيغنتشر، وسيلفر غايت.
ورغم أن بعض المؤشرات القادمة من الأسواق الدولية الكبرى، تؤشر على هدوء العاصفة، مؤقتاً على الأقل، فإن سقوط البنك، يجدد طرح الأسئلة عن حقيقة الإجراءات الاحتياطية، والقرارات المنظمة والمهيكلة للقطاع المالي والمصرفي، بعد كل أزمة كبرى مثل أزمة 2008، والدروس المستخلصة منها، إذ يبدو أن انهيار البنك وما تبعه من إجراءات وقرارات، مجرد علامة أو رقم إضافي في سجل طويل من الإخفاقات والسقطات، والمغالطات.

مصرف العام

ويعد بنك سيليكون فالي، بعد إفلاسه حالة نموذجية بكل المقاييس، لما تقدم، فلا أزمة 2008، ولا الأزمة اللاحقة لها كانت كفيلة باستخلاص الدروس والعبر، ولا الإجراءات المتخذة بعدها كانت كافية أو قادرة على منع تكرار المأساة. وفي هذا السياق أشارت تقارير متخصصة كثيرة، إلى الخطيئة الأصلية التي قام عليها البنك الأمريكي المفلس، والمتمثلة في إدارته التنفيذية، ذلك أن المصرف الذي كان حتى ساعات قبل انهياره نجم المصارف والبنوك الأمريكية، كان تحت إدارة جوزيف جنتيل، بصفته المدير الإداري الأول للبنك. ولأن الأغلبية الساحقة لا تعرف جنتل ومن يكون، يكفي التذكير بالأزمة العالمية المالية في 2008، التي انطلقت رسمياً بإفلاس البنك الأمريكي العملاق "ليمان براذرز" في أواخر 2007، وبراذرز، هو البنك الذي شغل فيه جنتل منصب المدير المالي، إلى غاية أشهر قليلة قبل إفلاسه. ويبدو أن الرجل الذي قضى حياته في أعلى المسؤوليات بين المصارف الأمريكية، كرر في فالي، ما اقترفه من أخطاء في براذرز، فكانت النتيجة واحدة. وإلى جانب ذلك كشف انهيار البنك، الذي كان للمفارقة قبل يومين فقط من إفلاسه، بين أفضل البنوك في الولايات المتحدة "للعام الخامس على التوالي" في قائمة "فوربس" لأفضل المصارف وأقواها في العالم وفي أمريكا، الدور "المريب" الذي تلعبه مثل هذه المؤسسات التي تمنح نفسها حق توزيع الألقاب والجوائز، والتتويجات، لمؤسسات أو شركات، لا تستجيب بالضرورة للمقاييس العلمية الصارمة المطلوبة في مثل هذه المجالات، خاصة المؤسسات ذات الصلات بالمصالح الحيوية للاقتصاد وحتى للدول نفسها. كما كشف الانهيار أو "فضح" بعض المؤسسات الأخرى التي تلعب دوراً مشابهاً لكنه أخطر مثل وكالات الترقيم والتصنيف السيادي، التي يمكنها حسم مستقبل مؤسسات متينة فعلاً، وذات أصول قوية، ولكن  تعامل "فيتش" أو "ستاندرد بورز" أو "موديز" معها، ربما يتسبب في انهيارها، كما قد يتسبب في المبالغة في تقدير كفاءة ونجاح مؤسسات أخرى، مثل سيليكون فالي الذي لم تتوقع إفلاسه.
وبانهيار البنك الأمريكي الأخير، غابت الحدود تقريباً بين مثل هذه المؤسسات الدولية المتخصصة في التصنيف الائتماني والسيادي للمؤسسات والدول، وشركات العلاقات العامة التي اقتحمت هذا التخصص على غرار "فوربس"، و"غلوبال فاينانس"، و"ذا بانكر"، و"بلومبرغ" التي وقعت في فخ الخلط بين الإحصاء والتقييم.

من أوباما إلى بايدن

في 2008، بعد انهيار ليمان براذرز المدوي، تعهد الرئيس الأمريكي السابق يومها، باراك أوباما، بمحاسبة المتسببين في الأزمة، وفي اليومين الماضيين، أي بعد 15 عاماً، يتعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن، نائب أوباما في 2008، مرة أخرى بمحاسبة المتسببين، ولا يبدو أن ذلك سيكفي لوقف مسلسل الانهيارات قريباً.
وإذا كان لسقوط "فالي" ميزة فهي بلا شك تعريته النقص الفادح في القدرة على التحوط، والتوقع، والفشل المثير للاستغراب في التفطن لمواطن الضعف أو الخطر، وكما قالت وكالة الأنباء الفرنسية أمس الثلاثاء: "وبقي سبب هذا الإغفال السؤال الأبرز في أوساط الخبراء المصرفيين، إذ ركز بعضهم على ضعف القواعد في الولايات المتحدة". وحسب الوكالة الفرنسية، قال أستاذ القانون بجامعة جورج واشنطن آرثر ولمارث إن الإخفاقات "كشفت قلة كفاءة الإصلاحات التنظيمية التي أقرت منذ الأزمة المالية العالمية" في 2008.
ولكن المثير في تقييم المحلل الأمريكي، أن كل مقومات الفشل والانهيار كانت ظاهرة للجميع، وكل الإشارات الحمراء كانت مرفوعة في وجه أصغر المتابعين للمشهد المصرفي في أمريكا، لكن لا أحد تحرك، من ذلك أن مشكلة "إس. في. بي" أي سيليكون فالي بنك، كانت أمراً حتمياً في ظل التطورات المالية في الولايات المتحدة، خاصة بالنظر إلى قرارات المصرف المركزي المتتالية برفع سعر الفائدة إلى مستويات مرتفعة، أي أن البنك وبسبب هذه الفوائد كان في طريقه للغرق، ولكن لا أحد تحرك ليرمي له طوق نجاة.
وفي هذا السياق يقول المحلل مارث إن "إس. في. بي حقق نمواً سريعاً للغاية بين 2020 و2022 ولكن تعرضه إلى سندات فائدة ثابتة طويلة الأمد جعله أكثر ضعفاً أمام التحول في السياسات النقدية من قبل الاحتياطي الفدرالي، المركزي الأمريكي، قبل أن يضيف "تعد هذه تقريباً وصفة مضمونة للفشل. إذا تحول الاقتصاد، تبدأ المشاكل.. ما كانت هذه الأمور غامضة  عند الجهات المنظمة"، ولكنها مع ذلك فشلت في الانتباه إليها.

الأكمة الأمريكية

إن إفلاس براذرز في 2008، وسيليكون فالي اليوم، وجهان لعملة واحدة تؤكد أن وراء الأكمة المصرفية والمالية الأمريكية أولاً ثم الدولية ثانياً، ما وراءها، فكما كان كبار المسؤولين لبراذرز يؤكدون حتى ساعات قليلة قبل انهياره رسمياً، أنه في طريقه للتعافي وأنه قادر على عكس التيار، كان مسؤولو سيليكون فالي يشيدون بنجاح البنك، ويؤكدون قدرته على الصمود والعودة إلى النجاح، وفي الوقت الذي كانت فيه سيولة براذرز تتبخر وأصوله تحترق، كان مسؤولوه يبيعون أسهمهم لجني الملايين قبل الطامة الكبرى، ويبدو أن المشهد نفسه يتكرر اليوم في أمريكا أيضاً، بعد إعلان وزارة العدل الأمريكية، وفق تقارير إعلامية الأربعاء، فتح تحقيق في بيع مكثف من قادة المصرف المفلس أسهمهم فيه، قبل إشهار الإفلاس رسمياً.
ولأن تاريخ المصارف، دورات متشابهة ومتعاقبة، فإن ما تكشف بعد سقوط ليمان براذرز، ربما يتكرر مع انهيار سيليكون فالي، في ظل الإصرار على نفس الأخطاء، ونفس النموذج. فمن جهته  أعلن رئيس اللجنة المشرفة على المصارف في مجلس الشيوخ الأمريكي، شيرود براون، من الحزب الديمقراطي، أن المجلس لن يشدد قواعد المراقبة والمتابعة للمصارف لاحقاً، في حين سارعت وكالتا التصنيف "موديز" و"ستاندرد آند بورز" مساء الثلاثاء إلى نفي خطر امتداد التداعيات المالية في اضطراب في أمريكا، في أعقاب إفلاس بنك سيليكون فالي، والتشديد على محدودية تأثيره على المصارف الأوروبية التي تتبع تنظيماً مختلفاً، وهو نفس التأكيد تقريباً الذي نشرته وكالات التصنيف الثلاث الكبرى، بعد انهيار ليمان براذرز، قبل أسابيع من امتداد الحريق إلى كامل الاقتصاد العالمي.

كريدي سويس يحبس أنفاس أوروبا

وفي أوروبا يحبس المتابعون والخبراء أنفاسهم بعد تدهور أسهم كريدي سويس، أحد 5 عمالقة المصارف الأوروبية، الذي "اكتشف" بعد انهيار "سيليكون فالي" الذي تسبب في تدهور أسهمه إلى مستوى تاريخي في تداولات الثلاثاء، وفق إعلان الشركة الأم "كريدي سويس غروب" "نقاط ضعف مادية" في تقاريرها المالية عن 2021 و2022، أضافت المجموعة أن "رقابتها الداخلية  على إعداد التقارير المالية حتى 31 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، و31 ديسمبر (كانون الأول) 2021، لم تكن فعالة"، وبسبب هذا الاكتشاف أرجأت كريدي سويس  نشر التقارير المالية للعام الماضي والتي كان مقرراً نشرها في نهاية 2022، ما ضاعف المخاوف على مستقبل المصرف العملاق، وعلى الأسواق المالية في كامل أوروبا.  
وفي الأثناء تعالت الدعوات إلى التهدئة، وتجنب الذعر، حتى إن الرئيس الوصي على البنك المنهار الذي عينته السلطات الأمريكية،
"بنك سيليكون فالي بريدج" ونقلت إليه كافة ودائع "بنك سيليكون فالي" المنهار، حث جميع العملاء الثلاثاء على إعادة إيداع الأموال التي سحبوها من المصرف المفلس حتى "يتمكن البنك من العمل مجدداً"، رغم أن وسائل إعلام أمريكية تناقلت أمس الثلاثاء، واليوم الأربعاء، أن قادة المصرف، استمروا في توزيع الحوافز والمكاسب حتى آخر لحظة قبل إعلان الإفلاس رسمياً، ونقل موقع أمريكي مساء الثلاثاء، أن البنك وزع منحاً في حدود 12 ألف دولار، على الشركاء، وحوالي 140 ألف دولار للموظفين الذين يشغلون مناصب قيادية فيه. ونقلت بلومبرغ من جهتها أن متوسط الحوافز التي وزعها البنك في 2018، كان في حدود 250 ألف دولار.