مراسم توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية بأبوظبي في فبراير 2019 (أرشيف)
مراسم توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية بأبوظبي في فبراير 2019 (أرشيف)
الإثنين 24 أبريل 2023 / 11:38

"مَأسسة التسامح"..الإمارات تُقدم الدروس

لا تكفي النيات الطيبة أو نبل المقاصد لإنجاح أي عمل. وليس هناك من شك في أن الإيمان بالمبدأ أو الرسالة ضروري وجوهري، لكن القدرة على تحويل المبدأ أو الرسالة أو القيمة إلى واقع على الأرض تعتمد على الجهد الواعي والمنظم والفهم الدقيق للواقع، ووضع الاستراتيجيات والخطط التي تضمن نجاح الغاية، واستدامتها، وقدرتها على التغلب على العقبات التي تعترضها في الحاضر والمستقبل.
ولقد كان هذا الفهم واضحاً لدى القيادة الرشيدة لدولة الإمارات وهي تتصدى لمهمتها الجليلة في قيادة جهود تعزيز التسامح نيابةً عن العالمين العربي والإسلامي، إيماناً منها بأن تقديم النموذج الأمثل والأكمل يمنح الدول العربية والإسلامية الأخرى فرصة للاستفادة من هذه الجهود، دون إغفال الخصوصيات والسياقات السياسية والثقافية والمجتمعية التي تفرض معالجات مختلفة بعض الشيء، مع بقاء الخطوط الرئيسيَّة والعامَّة ذاتها في كل الحالات، وهو ما أوضحه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بقوله إن "دولة الامارات آمنت بضرورة بسط قيم السلام والتعايش والتسامح، حتى غدت أنموذجاً متفرِّداً ووطناً للمحبة تتوحَّد وتتآلف فيه القلوب والعقول".
وكان إنشاء وزارة التسامح في دولة الإمارات في فبراير (شباط) 2016، تتويجاً لسنوات طويلة من عناية الدولة بترسيخ هذه القيمة في المجتمع بالنظر إلى ما تحتله "الوزارة" من مكانة متقدمة جداً في هرمية ترتيب مؤسسات الدولة التنفيذية، وخطوة محورية في مأسسة التسامح في دولة الإمارات، وتنظيم العمل وتأطيره في هذا المجال الحيوي، وتحويله إلى جهد مدروس ومنظَّم، وهو ما عبر عنه مقال لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، عند إنشاء الوزارة، جاء فيه "التسامح ليس فقط كلمة نتغنى بها، بل لا بد أن يكون لها مؤشرات ودراسات وسياسات، وترسيخ سلوكي في مجتمعنا لنصون مستقبله ونحافظ على مكتسبات حاضره".
كذلك احتل التسامح موقعه داخل وثيقة "مبادئ الخمسين"، وهي المبادئ العشرة التي تمثل «مرجعاً لجميع مؤسسات الدولة لتعزيز أركان الاتحاد وبناء اقتصاد مستدام، وتسخير جميع الموارد لمجتمع أكثر ازدهاراً"، حيث ينص المبدأ الثامن على أن "منظومة القيم في دولة الإمارات ستبقى قائمة على الانفتاح والتسامح، وحفظ الحقوق وترسيخ دولة العدالة، وحفظ الكرامة البشرية، واحترام الثقافات، وترسيخ الأخوّة الإنسانية".
ضمنت مأسسة التسامح في دولة الإمارات للجهود المبذولة أن تؤتي أكلها في الوقت المناسب، وأن تشمل مختلف القطاعات والمجالات، ذلك أنها امتدت من المجتمع بمختلف فئاته العمرية إلى الثقافة، والإعلام، والتعليم، والمؤسسات الدينية، من خلال فعاليات وأنشطة متواصلة، إلى جانب حماية التسامح من خلال تشريعات تنوع وتُجرم كل نزعات الكراهية، والتمييز، والإساءة إلى الأديان والمعتقدات. كما شملت هذه الجهود إقامة مؤسسات للتعاون الإقليمي والدولي، تضمن استمرار الحوار بين الأديان، وتعزيز التقارب والتعايش، وتنسيق الجهود الإقليمية والدولية.
ربما يمكن أن تتضح طريقة عمل المؤسسات المعنية بالتسامح في دولة الإمارات من خلال أحد أقسام "البرنامج الوطني للتسامح"، وهو ينص على أن التطبيق سوف يتم من خلال "فرق عمل يتم تشكيلها بالتعاون مع الجهات الرئيسية ذات العلاقة، والتي ستعمل ضمن خمسة محاور رئيسية وهي: تعزيز دور الحكومة كحاضنة للتسامح، وترسيخ دور الأسرة المترابطة في بناء المجتمع، وتعزيز التسامح لدى الشباب ووقايتهم من التعصب والتطرف، وإثراء المحتوى العلمي والثقافي، والمساهمة في الجهود الدولية لتعزيز التسامح وإبراز الدور الرائد للدولة في هذا المجال".
ومن الصعوبة بمكان أن نتوقف عند تفاصيل كل مؤسسة من مؤسسات التسامح ومبادراته وفعالياته، بحكم المساحة المحدودة للمقال، لكننا يمكن أن نشير إلى مبادرات مثل "عام التسامح"، الذي كرست خلاله كل مؤسسات الدولة وقطاعاتها المختلفة جهودها لإقامة فعاليات وتقديم مبادرات حول التسامح، وفق تقليد اتبعته دولة الإمارات بتخصيص قيمة أو شخصية أو رمز للاحتفاء بها طيلة العام، بحيث تصل هذه القيمة إلى كل إنسان في دولة الإمارات.
وفي عام 2017 أنشئ «"لمعهد الدولي للتسامح"، ضمن "مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية"، وتنص رسالته على أنه "مؤسسة عالمية تغرس مفاهيم وقيم التسامح والسلام في الدول والمجتمعات والأفراد من خلال السياسات والتشريعات والتدريب والبحوث والدراسات المتخصصة وتكريم الفئات المتميزة في مجال التسامح". وينظم المعهد منذ عام 2018 القمة العالمية للتسامح، وهي تجمع علمي ثقافي يضم عدداً كبيراً من القادة العالميين، وصناع الرأي المعنيين بالتسامح. كما أطلق المعهد منذ عام 2019 "جائزة محمد بن راشد آل مكتوم للتسامح" التي تبلغ قيمتها خمسة ملايين درهم، وتُقدم في خمسة مجالات هي: الفكر الإنساني، والأدب العالمي، والفنون الإبداعية، والمشاريع الشبابية، والإعلام الجديد.
وترتبط البنية المؤسسية للتسامح ارتباطاً وثيقاً بمجموعة من المبادرات والهياكل المرتبطة بتعزيز حوار الأديان ومواجهة الكراهية والتطرف والعنف، من بينها تأسيس "مجلس حكماء المسلمين" الذي أنشئ عام 2014، من أجل ترسيخ منهج الوسطية الإسلامية، وتعزيز السلم، وترسيخ قيم الحوار والتسامح، وكذلك تأسيس مركز "هداية" عام 2012، وهو معني بالتدريب والحوار والأبحاث والتعاون في مجال مكافحة التطرف العنيف، ومركز "صواب" عام 2015، وهو يعمل من أجل إيصال أصوات المسلمين الرافضين لأفكار الإرهاب وممارساته إلى العالم، و"منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة" الذي تؤسس دراساته وبحوثه الفقهية والعلمية ومؤتمراته الدولية للاعتدال والوسطية.
وفي جانب التشريع القانوني، قد صدر عام 2015 مرسوم بقانون رقم لسنة 2015 بشأن مكافحة التمييز والكراهية، وهو القانون الذي يُجرم الأفعال المرتبطة بازدراء الأديان ومقدساتها ويعاقب عليها وعلى كل أشكال التمييز وخطاب الكراهية بعقوبات رادعة.
والحقيقة أن جهود مأسسة التسامح أكبر من أن تُحصى، وهي تتوسع باطراد في مختلف المجالات، ومن بينها التعليم، على النحو الذي يتمثل في تخصيص "جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية" أحد برامجها لمنح "بكالوريوس الآداب في التسامح والتعايش»، وعلى النحو الذي يتمثل أيضاً في الموقع المتقدم للتسامح ضمن منهاج التربية الأخلاقية الذي أدرج ضمن المناهج التعليمية بتوجيه كريم من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، وهو يُدرس في مراحل التعليم المختلفة بدولة الإمارات منذ خمسة أعوام، ما يضمن للنشء أن يؤمنوا بأهمية التسامح وضرورته منذ حداثة أعمارهم، وأن يكونوا هم أنفسهم أهم أركان حماية التسامح وصيانته في بلدنا الطيب المعطاء.