الإثنين 15 مايو 2023 / 19:11

"صحيفة المدينة".. إعلاء المساواة والتعايش وحرية المُعتقد

الدفاع عن الدولة وفقاً لصحيفة المدينة واجب على أطراف التعاقد بمن فيهم اليهود والوثنيون والمشركون


يزخر القرآن وصحيح السنة النبوية، وهما أعلى مصادر التشريع الإسلامي، بالنصوص التي تجعل من التسامح جزءاً أصيلًا من فهم المسلمين للعالم وتشكيل رؤيتهم تجاه أتباع الديانات والعقائد الأخرى على اختلافها. وتُقدِّم "صحيفة المدينة"، أو "وثيقة المدينة" التي صاغ كلماتها الشريفة الرسول، عليه الصلاة والسلام، نموذجًا مكتملًا للتسامح الذي يدخل في صلب بناء الدولة الإسلامية، أذ تؤكد أن أتباع الديانات والعقائد الأخرى جزءٌ أصيلٌ منها، يتساوون فيها مع المسلمين في حق المواطنة، ويحظون فيها بكامل الحقوق ويشاركون في بنائها السياسي والاقتصادي، ويتمتعون بحرياتهم الدينية التي تحظى بالحماية والاحترام.
وتشير الدراسات التاريخية إلى أن "صحيفة المدينة" قد لا تكون كُتبت مرة واحدة، بل كُتب جزء منها قبل غزوة بدر، وهو القسم الأول منها المتعلق بالمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن لحق بهم وجاهد معهم من غير المسلمين، وكُتب الجزء الثاني بعد غزوة بدر، التي ثبتت أركان دولة الإسلام في المدينة المنورة، حيث أضيفت البنود المتعلقة باليهود. وعلى أي حال فإن الصحيفة كلها تنطلق من رؤية واحدة تجعلها كلًّا منسجمًا ومتكاملًا.
تبدأ الصحيفة بالنص صراحة على المساواة التامة بين المسلمين وغيرهم في "دولة المدينة" التي كان النبي الكريم قد وضع أسسها، إذ تفتتح على النحو التالي: "بسم الله الرحمن الرحيم. هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ ويَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ: إنّهُمْ أُمّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النّاسِ". والمقصود بـ"من اتبعهم ولحق بهم فلحق بهم وجاهد معهم» هم أولئك الذين رفضوا اعتناق الإسلام وبقوا على دين آبائهم من قريش وأهل المدينة المنورة وجوارها، واليهود المقيمون في المدينة المنورة وجوارها، ويقرُّ لهم النبي الكريم كونهم "أمة واحدة"، على النحو الذي يجعل "صحيفة المدينة" سابقةً في إقرار المواطنة رابطةً تعلو على الانتماء الديني والقبلي، وتشكِّل الأساس المتفق عليه لبناء الدولة التي تتسع للجميع.
ونصت الوثيقة بوضوح أيضاً على حرية الاعتقاد، وورد فيها: "وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمَيْنِ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ (يُهلك أو يُورِّط) إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ"، ففضلًا عن التأكيد مرة ثانية على فكرة "الأمة" التي تتسع للجميع، فإن لكلٍّ أن يبقى على دينه وعلى معتقده، والمسلمون واليهود في ذلك سواء، والإثم يتحمل وزره مقترفوه، ولا يُدان به  غيرهم ممن يشاركونهم دينهم ومُعتقدهم.
والأمن والأمان مكفولان لكل من تشمله الصحيفة، دون تفرقة بينهم على أساس من الانتماء الديني أو القبلي، على النحو الذي يظهر في البند الآتي: "وَإِنّ يَثْرِبً حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ"، أي أنها حرمٌ آمن لكل من أشارت إليه الصحيفة، غير أن نصوصها تمتد إلى مساحة أخرى، هي التعاطف والتراحم، حيث تقول: "وَإِنَهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنّ لَهُ النّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرِينَ عَلَيْهِمْ"، و"الأسوة" التي جعلتها التعاليم النبوية حقًّا واجب الأداء، تعني "المواساة" في الشدائد، بما ستلزمه من مشاعر صادقة ومحبة خالصة لا تشوبها شائبة. ويكتمل ذلك بكون النقاش حول الصالح العام للجماعة وطرح وجهات النظر المختلفة حقًّا للجميع، وهو ما لم تُغفله الصحيفة بقولها «وإن بينهم النصح والنصيحة»، لتكون آراء العقلاء وخبراتهم وخلاصات تجاربهم ومعارفهم طريقًا إلى الأمن الاستقرار والرخاء، والعقل والرأي لا يرتبطان بدين ولا مذهب.
والدفاع عن الدولة وفقًا لـ"الصحيفة" واجبٌ على أطراف التعاقد بمن فيهم اليهود والوثنيون والمشركون، لأنهم يدافعون عن بلدهم الذي لا يختلف موقعهم فيه عن موقع المسلمين، ولا يُنتقص لهم حق. ولقد أتاحت الظروف التي واجهتها دولة المدينة لهذا المبدأ تحديدًا أن يُختبر على أرض الواقع، فقاتل يهود ومشركون إلى جانب المسلمين دفاعًا عن وطنهم، والتزامًا بما تعاهدوا عليه وارتضوه. وإذا كان الرسول الكريم والمسلمون قد أوفوا بنصيبهم من الاتفاق فإن شركاءهم فيه حرصوا على الوفاء بنصيبهم أيضاً، وذلك في ساحات الوغى التي يُختبر فيها صدق الرجال.
تذكر كتب التاريخ أن رجلاً وثنياً اسمه قزمان كان من بين من قاتلوا في غزوة أحد إلى جانب جيش المسلمين، دفاعاً عن المدينة المنورة، وأنه خاض المعركة ببسالة استرعت الإعجاب، وقتل عددًا من المشركين إلى أن أصيب بجراح بليغة تركته على شفا الموت، وحين بشره بعض المسلمين بالجنة قال: "والله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي"، وحين اشتدت عليه الجراح قتل نفسه. ومثله كان مخيريق، الوجيه اليهودي الثري الذي دعا قومه إلى القتال في جيش المسلمين في غزوة أحد قائلًا: "يا معشر يهود، والله لقد علمتم إن نصر محمد عليكم لحق"، وقاتل حتى قُتل. وكان مخيريق قبل انضمامه إلى جيش المسلمين قد أوصى بماله ونخيله للرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت أغلب صدقات الرسول في المدينة المنورة من مال مخيريق.
وربما يكون هناك آخرون غير قزمان ومخيريق ممن اتخذوا الموقف ذاته، دون أن يحفظ التاريخ أسماءهم، ولكن ما فعله الرجلان يؤكد أن الصحيفة كانت تؤتي أكلها، وتُثبِّت معنى الدولة التي يتساوى فيها الجميع ويحملون لها من الولاء ما يدفعهم إلى الموت دفاعًا عنها، حتى لو كان أكثر مواطنيها ينتمون إلى دين آخر.
إن "صحيفة المدينة" ونصوصها التي تُعدُّ سبْقًا إسلاميّاً فريداً، إنما تؤكد أن دعاوى التطرف والكراهية لا تنتمي إلى الإسلام في شيء، بل إنها تخاصم جوهر الرسالة الإسلامية التي تحض على الفضائل الإنسانية جميعها، وعلى رأسها التعارف والتقارب والتعايش والتسامح، وأن الدولة الإسلامية التي أقامها الرسول لم تعرف الكراهية أو الإكراه على الدين أو المعتقد. وليست "صحيفة المدينة" إلا واحدة من وثائق كثيرة تؤكد المعاني ذاتها، ويمكن أن نختار من بينها وثيقة تعاهدية أخرى، مع مسيحيي نجران، جاء فيها: "ولنجران وحاشيتها جوارُ الله وذمةُ محمد النبي رسول الله على أموالهم، وأنفسِهم، وأرضِهم، وملتِهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعشيرتهم، وبِيَعهم، وكلِّ ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يُغيَّر أسقفٌ من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته".