المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي مع ضباط من الحرس الثوري.(أف ب)
المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي مع ضباط من الحرس الثوري.(أف ب)
الجمعة 26 مايو 2023 / 11:48

فورين أفيرز: إيران على أعتاب أزمة خلافة

كتب مدير البرامج في معهد تغطية الحرب والسلم والباحث الزائر في مركز الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية في جامعة نورث كارولاينا، علي رضا إشراقي، أنه خلال معظم الأشهر التسعة الماضية، نظر المحللون في الخارج إلى احتجاجات إيران، بحثاً عن علامات على إمكانية أن تشهد البلاد تغييراً سياسياً، ولفترة معينة، كانت الاحتجاجات كبيرة إلى درجة أن محللين أجانب تساءلوا عما إذا كان النظام قد ينهار ببساطة.

أنشأ خامنئي نوعاً من الحكم الشخصاني الذي لم يتح للنخبة فرصة تطوير كيانات وإجراءات قادرة على التوسط في صراعاتها

يأسف إشراقي في مجلة "فورين أفيرز" لعدم حدوث ذلك. فقد لجأت طهران إلى القوة الساحقة لقمع المظاهرات معتقلة آلاف المحتجين. وقتلت مئات آخرين بما في ذلك من خلال عمليات إعدام علنية مروعة. اليوم، لا يزال جمر السخط العام في إيران يحترق. لكن التظاهرات هدأت إلى حد كبير، هي لا تشكل خطراً وشيكاً على النظام. لكن النخبة الإيرانية لا ترتاح بسهولة، وإن كان ذلك لسبب مختلف تماماً.
 

تداول السلطة... بين النظري والعملي

يبلغ المرشد الأعلى علي خامنئي 84 عاماً من العمر وله تاريخ من المشاكل الصحية. حسب ما نقلت صحيفة نيويورك تايمز، كان خامنئي مريضاً بشكل خطير في سبتمبر (أيلول) الماضي. بعدما سافر إلى أحد المراقد سنة 2022، أخبر الوفد المرافق له بأنها قد تكون زيارته الأخيرة بالنظر إلى عمره. قد يكون خامنئي بصحة جيدة الآن، لكنه لن يعيش إلى الأبد، والنخب الإيرانية قلقة بشأن ما سيحدث بمجرد رحيله.
نظرياً، لا ينبغي أن تكون النخب قلقة للغاية: إن النظام الرسمي لاختيار المرشد الأعلى واضح تماماً. وفق الدستور الإيراني، سيجتمع أعضاء مجلس خبراء القيادة البالغ عددهم 88 عضواً ويسمون مرشحين. لم يكشف مجلس خبراء القيادة مطلقاً عن القواعد الداخلية لهذه الإجراءات لكن المحللين يعرفون أن مداولات الهيئة تطول بما يكفي قبل التصويت ثم تقوم بعد ذلك بإلغاء المرشحين حسب الحاجة، حتى يخرج شخص ما بأغلبية. لكن العملية الفعلية لاختيار مرشد جديد ليست بهذه البساطة.

 


قلة من أعضاء الجمعية – 60 في المئة منهم تبلغ أعمارهم 70 عاماً أو أكثر – تتمتع بنفوذ سياسي حقيقي. بدلاً من ذلك، إن هؤلاء الأعضاء وكلاء لكبار السياسيين وصناع القرار في النظام وقادته الأمنيين والعسكريين والمؤسسات التي يسيطرون عليها. هذه النخبة ممزقة بالانقسامات ويمكن أن تعاني من أجل التوصل إلى توافق.
في الواقع، إن أعضاءها في صراع شبه دائم. تتسم العلاقات بالخلاف والتنافس الشرس بين وداخل كل معسكر من النخب الإيرانية التي ليس لديها حالياً قواعد أو مؤسسة قوية أو وسيط مؤثر لإدارة نزاعاتهما. بالنظر إلى كل هذا الجو من انعدام الثقة والعداء، من غير المرجح أن يكون الصراع على خلافة خامنئي منافسة منظمة بين الفصيلين الرئيسيين في النظام أي المعتدلين والمحافظين المتشددين، بدلاً من ذلك، يُرجح أن تكون المعركة شبيهة بتلك التي أوصلت خامنئي إلى السلطة سنة 1989: منافسة ارتجالية ومريرة.
 

لماذا المفاجآت واردة؟

بينما يتنافس المرشحون المختلفون، قد تظهر تحالفات مفاجئة بالسرعة التي تتفكك بها. يمكن للنخب المختلفة استخدام المنافسة لتصفية الحسابات وتبادل الطعنات في الظهر ونشر الأسرار السيئة. سيتم التلاعب بالقواعد، بمقدار وجودها. يمكن أن يكون الفائز النهائي مفاجأة حتى لأفضل المراقبين المطّلعين. الشيء الوحيد المؤكد هو أن موت خامنئي سوف يجلب الكثير من عدم اليقين والفوضى.
في أواخر الثمانينيات، قلة توقعت أن يخلف خامنئي آية الله روح الله الخميني في منصب المرشد الأعلى لإيران. أولاً افتقر خامنئي الذي كان آنذاك رجل دين متوسط الرتبة إلى أوراق الاعتماد المطلوبة دستورياً ليصبح المرشد الأعلى. أشارت الشخصيات الدينية البارزة في البلاد إلى أنه كان رجل دين غير قادر على استنباط الأحكام الإسلامية، وهي تهمة ليست بسيطة في دولة ذات خصائص ثيوقراطية. حتى الخميني قال في رسالة مفتوحة شهر يناير (كانون الثاني) 1988 إن آراء خامنئي كانت "ضد أقواله"، وأكد أن خامنئي لم يتمتع بفهم صحيح للعقيدة الدينية الحيوية، التي تبرر وجود مرشد أعلى قبل أي شيء آخر.
من المؤكد وفق إشراقي أن خامنئي تمتع بأصدقاء وقد راكم ما يكفي من القوة ليكون منافساً على المنصب الأعلى. أتى ذلك إلى حد كبير من خلال الفوز في انتخابات 1981 و1985 ليصبح رئيساً لإيران. لكن في ذلك الوقت، كانت الرئاسة إلى حد كبير منصباً فخرياً وخالياً من أي سلطة حقيقية. انتمى خامنئي إلى اليمين السياسي للنظام الذي يعتقد أن المرشد الأعلى ليس فوق القوانين الدينية التقليدية وأن على الدولة احترام استقلالية الشركات الخاصة. لكن في تلك السنوات، كان النظام في الغالب تحت سيطرة اليسار. لقد تحول هذا الفصيل إلى ما يعرف اليوم بالإصلاحيين، ولكن في ذلك الوقت، تم تحديده من خلال دفعه باتجاه سياسة خارجية عدوانية وتطهير كل المعارضة وخلق اقتصاد شديد المركزية. حقق اليسار فوزاً ساحقاً في انتخابات 19،88 وحصل على أغلبية ساحقة في البرلمان الإيراني. وبقي الزعيم اليساري الشاب مير حسين موسوي رئيساً للوزراء وسيطر اليسار على حكومته كما على المناصب القضائية البارزة بما فيها رئاسة المحكمة العليا والادعاء العام.
امتدت قوة اليسار إلى ما وراء المؤسسات المدنية. سنة 1987، سلم الخميني بشكل مفاجئ إدارة اللجان الثورية، حينها قوة الأمن الداخلي الأكثر رعباً في البلاد، لأعضاء يساريين. أيدت غالبية الأعضاء العاديين للحرس الثوري إما اليسار أو آية الله حسين علي منتظري الذي تم تعيينه بشكل رسمي خلفاً للخميني. كانت قيادة الحرس الثوري نفسها منقسمة بين اليمين واليسار، وكان الخميني قد طلب مؤخراً محاكمة اثنين من جنرالاته اليمينيين. وتمتعت الدائرة المقربة من الخميني، بما في ذلك ابنه، بعلاقة أكثر دفئاً مع اليسار.
 

أحد أكبر الألغاز

كيفية تمكن خامنئي بعد ذلك من الظهور على القمة هو أحد أكبر الألغاز في النظام، ويعزى ذلك جزئياً إلى أن سجلات المداولات اللاحقة لمجلس خبراء القيادة تظل سرية. ولكن قبل شهرين فقط من وفاة الخميني، شن اليسار حملة ناجحة لإزالة منتظري كخليفة للخميني مما ولد فراغاً دستورياً. عقد مجلس الخبراء جلسة مغلقة طارئة. ناقش الأعضاء في البداية وجود العديد من كبار القادة بدلاً من وجود شخصية واحدة، لكنهم رفضوا في النهاية أي اتفاقيات لتقاسم السلطة. ثم قاموا بالتصويت ضد أبرز كبار رجال الدين، بمن فيهم رئيس مجلس خبراء القيادة نفسه علي مشكيني الذي كان صهره القوي يترأس جهاز الاستخبارات الإيرانية.
في النهاية، حسب روايات تاريخية، بدأ الأعضاء باقتراح أسماء عشوائية من بينها علي خامنئي. دعم رئيس مجلس الشورى أكبر هاشمي رفسنجاني الرئيس الإيراني. كان اليمين لا يزال هشاً وصوّت بعض أعضائه ضد خامنئي. لكن اليمين تمكن من الحصول على بعض الدعم من اليسار لانتخابه. لا يزال يستحيل قول كيف أدار اليمين هذه المهمة.


بعد اختيار خامنئي، وفقاً للكاتب، قام مجلس خاص على الفور بمراجعة الدستور الإيراني لمنح المرشد الأعلى تفويضاً مطلقاً غير مسبوق للحكم وقد تمت المصادقة عليه بعد ذلك في استفتاء مثير للجدل. وبمجرد وصوله إلى السلطة، سرعان ما قام المرشد الأعلى الإيراني الجديد بالتخلص من أعدائه. في السنوات الثلاث الأولى من قيادته، أقال خامنئي المسؤولين اليساريين من جميع المناصب الرئيسية تقريباً. وسرعان ما عين رئيساً جديداً للمحكمة. لقد فصل وحتى سجن قادة الحرس الثوري الإيراني غير الملتزمين. نجح في إقصاء اليسار عن الانتخابات النيابية. في الواقع، بحلول نهاية عامه الثاني، كان خامنئي قد أنشأ عملية تدقيق مقيدة تعيّن على جميع الطامحين اجتيازها قبل أن يتمكنوا من الترشح للمناصب. في غضون أعوام قليلة فقط، تحول خامنئي من لاعب هامشي إلى رئيس لإيران بشكل حاسم.
 

نظام الفوضى

على عكس الأنظمة الثورية الأخرى مثل تلك الموجودة في الصين أو الاتحاد السوفيتي السابق أو فيتنام، لم تنجح إيران مطلقاً في إنشاء حزب أو منظمة أخرى يمكنها إدارة علاقات النخبة. بالطبع، تملك إيران كيانات رسمية مختلفة تمثل من الناحية النظرية البلد بأكمله. لكن من الناحية العملية، هذه الهيئات في صراع دائم تقريباً. على مدار العقدين الماضيين، على سبيل المثال، تقاتلت وزارة الخارجية مع فيلق القدس حول من يتولى ملف أفغانستان وباكستان والشرق الأوسط. المعركة مستمرة، بالرغم من أن كلاً من الوزارة والفيلق تحت إدارة شخصيات متشددة. وفي أغسطس (آب) 2022، استبعد قائد فيلق القدس وزارة الخارجية من تنظيم لقاء مع رجل الدين الشيعي العراقي مقتدى الصدر. في أبريل (نيسان)، شجع نائب رئيس وكالة تنظيم التأمين في إيران البرلمان علانية على عزل وزير الصناعات الإيراني.
حسب إشراقي، تحتدم صراعات أخرى داخل المؤسسات الإيرانية. في أوائل 2021 على سبيل المثال، أدى الخلاف داخل المكتب السياسي للحرس الثوري الإيراني إلى إقالة رئيس التكتل التجاري التابع له. في فبراير 2022، أظهر تسجيل صوتي مُسرب قادة الحرس، بمن فيهم الجنرال قاسم سليماني قبل اغتياله، وهم يتشاجرون بشأن تورطهم في قضية فساد مالي ضخمة. وأدى الصراع داخل شركة إذاعة جمهورية إيران الإسلامية إلى العديد من التغييرات في قيادتها العليا. ظهرت نزاعات داخلية مماثلة بين المتشددين المسؤولين عن القضايا النووية. اختلف كبير المفاوضين النوويين في البلاد علي باقري كني مؤخراً مع رئيسه السابق سعيد جليلي حول مسودة الاتفاق التي أيدها كني. رداً على ذلك، أبعد الأخير أحد مؤيدي جليلي من فريق التفاوض.
في إيران، دائماً ما كانت القوة غير الرسمية للنخب أكبر من سلطة المنظمات البيروقراطية الرسمية. لكن هذه المعارك الشخصية نادراً ما دارت حول انقسامات سياسية أو أسباب أيديولوجية. بدلاً من ذلك، كانت أسبابها طموحات خاصة لكسب السلطة والسيطرة على الموارد العامة. تعني الطبيعة الأنانية لهذه الخلافات أن النخب ستقاتل بعضها حتى لو كلف ذلك مجموعاتها خسارة الفرص. سوف تتقاتل حتى لو تسبب الأمر بتقويض قدرتها على الحكم.
 

رئيسي نفسه ضحية الشائعات

كان هذا واضحاً بشكل خاص خلال الانتخابات الرئاسية في يونيو 2021 حسب إشراقي. قاطع بعض القادة الإصلاحيين الانتخابات. نشر العديد من المرشحين المحافظين إشاعات مفادها أن المتصدر المتشدد إبراهيم رئيسي استُبعد من المنافسة. زعموا مثلاً أن خامنئي منعه من الترشح. فاز رئيسي في النهاية. لكن الخلافات داخل النخبة المحافظة كانت شديدة لدرجة أن الرئيس لم يتمكن من الإعلان عن اختياره لمنصب نائب الرئيس إلا بعد شهرين من فوزه. استغرق الأمر أشهراً أخرى لتسمية محافظ البنك المركزي حيث تنافست مجموعات المصالح المختلفة داخل معسكره على المقعد. ومع انهيار العملة الإيرانية، اضطر رئيسي إلى استبدال محافظ البنك في ديسمبر (كانون الأول) 2022 بشخص ينتمي إلى مجموعة مختلفة.
سبقت الفوضى في السياسة الإيرانية خامنئي. لكن المرشد الأعلى الحالي لم يفعل الكثير للمساعدة في ترسيخ الاستقرار ضمن النظام. على العكس من ذلك، أنشأ خامنئي نوعاً من الحكم الشخصاني الذي لم يتح للنخبة فرصة تطوير كيانات وإجراءات قادرة على التوسط في صراعاتها. وهذا بدوره جعل السلطة محفوفة بالمخاطر وذات اضطرابات مستمرة. لا تنظر النخبة إلى مؤسسات الدولة على أنها أماكن لتحقيق رؤى سياسية منظمة بل على أنها إقطاعيات مؤقتة يمكن من خلالها استغلال الموارد العامة وتحقيق أهدافها الفردية. ومن المفارقات أن هذا يجعل أيضاً قاعدتهم المؤسسية ذات جدوى قليلة لأجندات تعظيم قوتهم.
لعل أفضل وأحدث مثل على ذلك هو رئيس السلطة القضائية السابق قضاة إيران السابق والعضو السابق في مجلس صيانة الدستور والرئيس الحالي لمجمع تشخيص مصلحة النظام صادق أمولي لاريجاني. بالرغم من جميع مناصبه المؤسسية التي افترض العديد من المحللين أنها أشارت إلى كونه خليفة لخامنئي، لم يعد لاريجاني يتمتع بسلطة ذات معنى. حُكم على أحد معارفه بالسجن 31 عاماً بتهمة الفساد. وأحد معينيه الرئيسيين السابقين، المدعي العام الثوري السيئ السمعة عباس جعفري ، يقود الآن سيارة أجرة في شوارع طهران.
 

ما هو مؤكد لغاية اللحظة

من المرجح أن يميز هذا التقلب العملية التي يتم من خلالها اختيار خليفة خامنئي. ستكون فوضوية مع وجود العديد من المفسدين وقلة من الوسطاء المخلصين. المرشحون الذين يبدو أنهم المفضلون الآن، بمن فيهم رئيسي ونجل المرشد الأعلى مجتبى خامنئي، يمكن أن تنتفي حظوظهم سريعاً. سوف تتحرك النخب التي رفضها النظام السياسي الحالي للاستفادة من أكبر فراغ في السلطة داخل إيران منذ سنة 1989. وكون إيران أرضاً خصبة للاضطرابات الشعبية يزيد من حالة عدم اليقين. الحقيقة أن الأمر الوحيد الواضح هو عدم استعداد النخبة الإيرانية المعاصرة لهذه اللحظة. نادراً ما تكون هذه النخبة مستعدة لأي اضطراب. ولن ينتهي صراع النخبة الإيرانية عندما تنتهي عملية الخلافة: من المرجح أن يكون المرشد المقبل لإيران زئبقياً مثل الذي سبقه.