الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشنكو (أ ف ب)
الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشنكو (أ ف ب)
الجمعة 30 يونيو 2023 / 13:42

وساطة لوكاشينكو: لحظة مجد عابرة مثيرة للشفقة

تحدث الباحث المتميز في مجلس العلاقات الخارجية توماس غراهام عن ادعاء الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، وقف التمرد في روسيا بالاستناد إلى طموحاته القديمة وإمكاناته الفعلية.

بعد أن ضمت روسيا بشكل غير قانوني شبه جزيرة القرم في 2014، اعتقد لوكاشينكو أنها فرصته لتأكيد نفسه.

وقال في "نيويورك تايمز" إن لوكاشينكو يحاول لفت انتباه الغرب، و يتأنق على المسرح العالمي مطلاً على وسائل الإعلام لكسب الفضل في التوسط في إنهاء التمرد المسلح في روسيا. قبل أسابيع فقط، أعلن الرجل القوي بفخر تسلم أول أسلحة نووية تكتيكية روسية متبجحاً بأنه لن يتردد في استخدامها.

لا يعرف المراقبون حتى الآن تفاصيل الاتفاق الذي يدعي لوكاشينكو أنه توسط فيه. لكن المرجح أنه يخضع لإعادة الكتابة في وقت يدعم في الرئيس الروسي فلاديمير بوتين موقعه في الداخل، ويدرس زعيم التمرد يفغيني بريغوجين خياراته. لكن هذا لم يمنع لوكاشينكو من الاستمرار في محاولة تلميع صورته. ويوم الثلاثاء، ذكرت وسائل الإعلام الحكومية البيلاروسية أن لوكاشينكو قال إنه أقنع بوتين "بالامتناع عن أي شيء متهور" بعدما زعم أنه فكر قتل بريغوجين خلال تقدم مقاتليه نحو موسكو.
 

خدمة... وأمل

وحسب الكاتب، فإن هذا النوع من التبجح معتاد من لوكاشينكو، ويعكس تطلعه العميق ليؤخذ على محمل الجد زعيماً عالمياً. لا يهم أن هذا الطموح لا يشبه الواقع. ومهما كانت التفاصيل فإن دوره في المفاوضات كان بالتأكيد دور القناة، ما أنقذ بوتين من الحط من شأن نفسه بالتعامل المباشر مع متمرد.
وأوضح بوتين بالفعل أن روسيا ستواصل السيطرة التشغيلية الكاملة على الأسلحة النووية التي وصلت إلى بيلاروسيا. والواقع حسب غراهام، أن لوكاشينكو ليس لاعباً مستقلاً، ولكنه أداة لسياسة الكرملين، وقد كان كذلك طيلة سنوات. لا يسعه إلا أن يأمل أن تضمن هذه الخدمة المقدمة إلى بوتين لحظة الحاجة، أن يبقيه الكرملين راسخاً في السلطة، ويستمر في التسامح مع تباهيه.

خطة قديمة

حاول لوكاشينكو ترسيخ موقعه استعداداً لأمور أعظم منذ أن وصل إلى السلطة في 1994. في أواخر التسعينات، ساعد على إنشاء اتحاد كونفدرالي نوعاً ما بين بيلاروسيا وروسيا، وكان يأمل أن يرأسه في النهاية بمجرد مغادرة الزعيم الروسي المريض وقتها بوريس يلتسين المسرح السياسي.

لكن تبين في ما بعد أن خليفة يلتسين هو بوتين الذي لم يكن ينوي لعب دور التابع لرئيس دولة أوروبية صغيرة، وعوض ذلك، ومع تراكم قوته، استغل بوتين اعتماد بيلاروسيا الاقتصادي الكبير على روسيا، خاصة الطاقة، لتقويض سيادتها. وبدل قيادة قوة عالمية كبرى، وجد لوكاشينكو نفسه يحاول الإفلات من "العناق" الروسي الخانق.
 

فرصة واعدة

بعد أن ضمت روسيا بشكل غير قانوني شبه جزيرة القرم في 2014، اعتقد لوكاشينكو أنها فرصته لتأكيد نفسه. مستفيداً من القطيعة بين روسيا والغرب بعد دعم روسيا للتمرد في شرق أوكرانيا، فروج للعاصمة مينسك مكاناً "محايداً" للحوار بين الشرق والغرب.

أصبحت المدينة المكان الذي اجتمعت فيه الأطراف المتحاربة، والقادة الروس، والأوروبيين للتوصل إلى اتفاق لإنهاء الأزمة. ونصت اتفاقيات مينسك على وقف إطلاق النار، وإعادة دمج المناطق المتمردة في أوكرانيا لكنها لم تنفذ قط. مع ذلك، أظهر لوكاشينكو إمكانات مينسك، وفق غراهام.

منتدى مينسك

في 2018، افتتح لوكاشينكو منتدى مينسك للحوار، الذي جمع خبراء السياسة الخارجية الأمريكيين، والأوروبيين، والروس في مناقشات حول القضايا العالمية، ما وفر له  منصة لا تقدر بثمن ليقدم نفسه رجل دولة مؤهلاً بشكل فريد لتخفيف التوتر بين روسيا وأوكرانيا. وجاءت الفرصة الثانية للوكاشينكو ليقلل اعتماده على روسيا في شكل صناعة التكنولوجيا المزدهرة في بيلاروسيا.
منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت هذه الصناعة محركاً رئيسياً للنمو الاقتصادي في بيلاروسيا، حيث مثلت 7 % من إجمالي الناتج القومي بحلول 2020.

كانت أيضاً قطاع مصدراً مهماً حيث أرسل الكثير من منتجاته إلى الغرب كما كان جاذباً للمستثمرين الغربيين الذين أعجبوا بسكان بيلاروسيا المثقفين، وبالأجور المنخفضة. ساعدت المكاسب الاقتصادية على توفير الأموال لتحويل مينسك نفسها إلى مدينة أوروبية مريحة، ما عزز جاذبيتها مكاناً اجتماع بين الشرق والغرب.
 

انتهى كل شيء

توقف حظ لوكاشينكو الجيد بشكل صارخ بعد بضع سنوات، ونتيجة لأفعاله بشكل كامل. وأدى تزويره الصارخ لانتخابات 2020 الرئاسية التي ادعى فيها بوقاحة أنه فاز بـ80% من الأصوات، إلى اندلاع حركة احتجاج ضخمة في البلاد. واعتقلت حكومته عشرات الآلاف، وتعرض المئات لسوء المعاملة أو التعذيب في الحجز ،وحجبت عشرات المواقع الإلكترونية حسب التقارير. وبعد أن أصبحت نجاته السياسية على المحك، عاد لوكاشينكو إلى روسيا التي كانت أكبر راغب في المساعدة، على حساب استقلال بلاده.
 

نتائج تدخل روسيا

أضاف الكاتب أن بوتين تدخل في الإنقاذ ودعم تكتيكات لوكاشينكو القاسية، فوافق على قرض بـ 1.5 مليار دولار لتخفيف أزمة ديون مينسك، وأرسل خبراء "إعلاميين" للمساعدة على تشويه سمعة المتظاهرين، باعتبارهم بيادق بيد قوى أجنبية، وأعلن تشكيل "شرطة احتياطية" روسية يمكن نشرها في بيلاروسيا إذا تدهور الوضع أكثر.
دفعت حملة القمع، عمال التكنولوجيا الذين كانوا في طليعة الاحتجاجات، إلى الفرار من البلاد بأعداد كبيرة. وحرمت مينسك من احتضان الاجتماعات الدولية حيث فرض الغرب العقوبات عليها، وعزل لوكاشينكو ديبلوماسياً. زاد الوضع سوءاً عندما بدأت روسيا استخدام بيلاروسيا نقطة انطلاق لغزو أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022. ولم يكن لوكاشينكو الذي يعتمد الآن بشكل كامل على الكرملين المتشبث بالسلطة في وضع يسمح له بالمقاومة.
 

بريغوجين المزعج

وافق لوكاشينكو على لجوء بريغوجين وعدد غير معروف من مرتزقته سيئي السمعة في بيلاروسيا، التي لا يستطيع بريغوجين الشعور بالأمان فيها، وهو الذي يعرف مصير آخرين أثاروا غضب بوتين.

لن يستفيد لوكاشينكو بأي شكل من الأشكال من مقتل بريغوجين على أرضه ويأمل على الأرجح أن تكون إقامته قصيرة. رغم هذا الترتيب غير المستقر. ومن المحتمل ألا يتمكن من مقاومة إغراء تجميل دوره، وسيحاول أن يلعب دور رجل الدولة العظيم أطول فترة ممكنة.
 ومع ذلك، لا شيء سيغير الواقع. حتى في لحظة مجده العابرة، مثّل لوكاشينكو شخصية مثيرة للشفقة وبيدقاً روسياً. ربما كانت الخدمة  الوحيدة التي قدمها لبلاده على مر السنين، أن بيلاروسيا كانت لفترة وجيزة لاعباً محترماً في الشؤون الأوروبية، ومكاناً للحوار البناء بين الشرق والغرب مع قطاع ديناميكي للتكنولوجيا. لكن لا يمكن لمينسك إحياء هذا الدور والحفاظ عليه إلا تحت قيادة رئيس يقبل القيم الأوروبية، ولوكاشينكو لن يكون ذلك الزعيم، أبداً، وفق غراهام.