الإثنين 3 يوليو 2023 / 15:14

حتى لا تظلّ الضواحي الفرنسية قنبلة موقوتة


اتجهت أنظار العالم خلال الأسبوع الماضي إلى فرنسا التي تشهد موجة اضطرابات وأعمال شغب أعقبت مقتل المراهق جزائري الأصل نائل المرزوقي برصاص شرطي أثناء تفتيش مروري في ضاحية نانتير غرب العاصمة باريس.
كانت الرصاصة التي انطلقت من مسدس الشرطي لتستقر في صدر الشاب ذي السبعة عشر ربيعاً بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، لتنطلق بعدها أعمال الشغب التي شملت عمليات سرقة ونهب وتدمير، وتسببت بتخريب أكثر من 220 بلدية، واعتقال نحو 1500 شخص، وإشعال آلاف الحرائق، فضلاً عن عشرات الهجمات على مراكز الشرطة وثكنات الدرك، وإشعال النيران في مئات السيارات، وإصابة عشرات رجال الأمن، وحرق منزل رئيس بلدية باريس بينما عائلته نائمة، ومقتل رجل إطفاء أثناء إخماده حرائق السيارات.
تضرر الاقتصاد الفرنسي لا شك، فأعمال الشغب بحسب ما أعلنت الحكومة الفرنسية في وقت سابق أضرّت بأكثر من 700 شركة في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك ما لا يقل عن 12 مركزاً للتسوق، ونحو 200 متجر سوبر ماركت ونحو 250 فرعاً مصرفياً، بالإضافة إلى إلغاء حجوزات آلاف السياح.

غضب مكتوم

لكن لماذا حدث كل هذا؟
لا مبرّر للعنف، لكن من المهم فهم أسبابه لعلاجها واجتثاثها من جذورها. ذلك أن مقتل نائل لم يكن إلا شرارة أخرجت الغضب المكتوم داخل الملايين من سكان هذه الضواحي من أبناء المهاجرين ضد عنف الشرطة والعنصرية اللذين اعتبرهما البعض ممنهجين. فكانت صرخة طال صداها الجميع لكنها كشفت عما يعانيه نحو 5,2 مليون شخص، أي حوالي 8% من السكان، وفق بيانات معهد الإحصاء الوطني (إنسي) للعام 2023، ممن يعيشون في أحياء محرومة.
إن نظرة سريعة على الأرقام التي لدينا حول سكان الضواحي الذين أشعلوا الشغب تكشف ما يعتمل في صدورهم، في العام 2014، حدّدت الدولة 1514 حياً فقيراً عرفتها بأنها "الأحياء ذات الأولوية لسياسة المدينة"، ومن المهم أن نعرف أن نحو 23.6 % من سكان هذه الأحياء لم يولدوا في فرنسا، ويزيد احتمال أن يتعرض شاب ينظر إليه على أنه أسود أو عربي لتدقيق أمني بـ 20 ضعفاً عن غيره، وفق تقرير صادر عن هيئة "المدافع عن الحقوق" الفرنسية، أما معدل الفقر في هذه الأحياء فهو أعلى ثلاث مرات من أي مكان آخر في فرنسا، إذ يعيش 43.3 % من سكانها تحت خط الفقر مقارنة بـ14.5 % في بقية المناطق، أما مستوى البطالة فيبلغ 18,6%. وفي الانتخابات الرئاسية لعام 2017 امتنع 48% من سكان هذه الأحياء عن التصويت أو لم يسجلوا في القوائم الانتخابية، بحسب دراسة أجراها "معهد مونتين" عام 2020. أدى هذا كله إلى خلق مجتمعات موازية من الغاضبين والمهمشين، فنشطت الجماعات الإرهابية وزادت الجريمة المنظمة والمخدرات والبطالة، مما ضاعف التوترات والصدامات مع السلطات المحلية والشرطة.
لم تصل الاضطرابات هذه المرة إلى ما وصلت إليه في 2005، بعد وفاة شابين جزائريين صعقاً في محطة للكهرباء أثناء اختبائهما من الشرطة، ما أدى لاندلاع احتجاجات ضخمة، وإحراق أكثر من عشرة آلاف سيارة وتضرر أكثر من 230 مبنى، في أعمال عنف استمرت 3 أسابيع، لكن تكرار هذه الاضطرابات بعد 18 عاماً يعني أن قضايا الضواحي والعنف الشرطي والعنصرية لم تجد حلاً طوال هذه الفترة.

مخاطر

تداعيات ما حدث خطيرة على الجانبين، فهي من ناحية ستُنمّي صعود اليمين المتطرف في فرنسا، وهو أمر شديد الخطورة على سكان هذه الضواحي وسيزيد من العدائية الأمنية والسياسية لهم، فضلاً عن أن هذه الاضطرابات ستزيد على المدى القريب من العنصرية التي ستضع فئات كبيرة من المجتمع الفرنسي موضع الشك، وتعزز النظر إليهم باعتبارهم مدانين بشكل ما، وسيؤدي تعرض المنحدرين من أصول عربية وإفريقية لمزيد من التهميش والعزلة الاجتماعية، مما يجعلهم في حالة ضعف وعدم قدرة على المشاركة الفعَّالة في المجتمع، مما يقود إلى انفجار آخر أكبر لا أحد يعلم مداه.
لكن ما هو المخرج من هذه الأزمة؟ إن بداية الحل هو ما أكدته دولة الإمارات العربية المتحدة في بيانها الرسمي من "ضرورة عودة التهدئة وخفض التصعيد واحترام قواعد ومبادئ القانون في فرنسا"، وتحقيق الاستقرار والأمن، وحماية المنشآت المدنية ومؤسسات الدولة. إن فرنسا قادرة كما قالت وزارة الخارجية الإماراتية في بيانها "على تجاوز الأحداث الجارية"، كونها "تعد مثالاً للدولة التي تراعي مصالح شعبها".

معالجات ضرورية

فرنسا التي نعرفها هي دولة الثقافة والفن والقانون، واحترام القانون من طرفي المعادلة ـ سكان الضواحي والشرطة ـ هو البداية الحقيقية لإيقاف ما يحدث، لكن يجب أن تتبعه أيضاً مجموعة أخرى من الحلول التي تقضي على جذور الأزمة.
فمن المهم النظر إلى التفاوت الاجتماعي والاقتصادي داخل فئات المجتمع الفرنسي بعين الاعتبار، لا اعتبارهم مجرد ورقة انتخابية فحسب، ويتطلب هذا تبني سياسات تهدف إلى تحسين ظروف المعيشة وتوفير فرص عمل مناسبة لهم، كما أن على المجتمع الفرنسي تعزيز التضامن والتعايش بين أعضائه، وتقدير التنوع واحترام الحقوق والحريات الأساسية للجميع بغض النظر عن أصولهم.
ومن المهم تعزيز القيم الإنسانية والأخلاقية لدى أفراد المجتمع وخاصة الشباب، والعمل على توعيتهم بكيفية التعبير بطرق سلمية، وأن العنف لن يؤدي سوى إلى المزيد من الأذى. علاوة على ذلك، يجب أن يكون هناك تركيز على توفير بيئة آمنة لأطفال تلك الضواحي وشبابها، وأن تعمل الحكومة والمنظمات غير الحكومية على توفير الحماية والدعم اللازمين للفئات العمرية الأكثر ضعفاً، وتأتي العقوبات القانونية أيضاً كوسيلة للحد من العنف، وذلك بأن تكون هناك عقوبات صارمة ضد مرتكبي الجرائم العنيفة، بما في ذلك حالات الشغب.
من ناحية أخرى، ولضبط العنف الشرطي، من المهم اتخاذ إجراءات وتدابير احترازية من قبل السلطات الأمنية، تشمل تحسين التدريب والوعي لدى رجال الشرطة بحقوق الأفراد والاستخدام المناسب للقوة، وتعزيز التواصل والثقة بين رجال الشرطة والجمهور، وتقديم الدعم النفسي اللازم لرجال الشرطة الذين يعانون من الضغوط النفسية، وإلزامهم بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان واحترام الحياة وكرامة الأفراد، وأن تكون تدابير استخدام القوة قانونية ومشروعة، ويتعين فرض عقوبات رادعة على أي ضابط يرتكب جرائم قتل غير مشروعة.
ومن المهم أن تضطلع المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني بدور فاعل في مراقبة أداء رجال الشرطة ورصد أي انتهاكات تتعلق بحقوق الأطفال والشباب، والمساهمة في تطوير التدابير القانونية والسياسات الضرورية لمنع حدوث مثل هذه الحوادث.
في النهاية، يجب أن نفهم أن على الحكومة والمجتمع في فرنسا العمل بشكل جاد ومستمر للتغلب على التوترات الاجتماعية، وبناء جسور التواصل والتفاهم بين جميع أفراد المجتمع. ويتطلب ذلك مشاركة أبناء الضواحي في صنع القرار وإتاحة الفرصة لهم للمساهمة في بناء مستقبل متساوٍ ومزدهر لجميع أفراد المجتمع الفرنسي.
وأتذكر هنا مقولة الشيخ زايد طيب الله ثراه: "إننا لا ننظر إلى الشباب على أساس أن هذا ابن فلان أو قريب فلان، لكننا ننظر إليهم على أساس ما يقدمونه من جهد لوطنهم"، ففي نظرة كهذه العلاج الناجع لما تعاني منه فرنسا من عنصرية وتهميش، إنها كلمات بسيطة: العدالة والمساواة وحب الوطن.