الجمعة 8 سبتمبر 2023 / 18:59

نحو تحويل الصقارة إلى صناعة ثقافية متكاملة

‎تتقدم دولة الإمارات العربية المتحدة إلى المستقبل معتمدة على ركيزتين، التراث الغني الضارب في عمق التاريخ، والحداثة التي تتخذ من التطور والتكنولوجيا والمشاريع المبتكرة الخلاقة في المجالات كافة، نبراساً وهدفاً، وهي في صنيعها هذا لا تهمل ركيزة لصالح أخرى، بل تتلازمان تحقيقاً لرؤية فريدة وناجحة.

‏‎وفي قلب تراث الإمارات العريق، يأتي فن الصقارة الذي كان يحظى بتقدير واهتمام الأب المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، لا سيما كونه مرتبطاً بالصيد المستدام والمشاريع البيئية المستدامة، وهو القائل إن "الصيد بالصقور هو تذكير دائم لنا بقوى الطبيعة وبالعلاقة المتبادلة بين الكائنات الحية والأرض، التي نتقاسم العيش عليها وباعتمادنا على الطبيعة".

‏‎ومن هنا جاء اهتمام دولة الإمارات بالمشاركة في تسجيل الصقارة ضمن لائحة التراث غير المادي لليونسكو، تحقيقاً لرؤيتها الثقافية والحضارية بزيادة الوعي بقيمة هذا التراث والفن الإنساني والحفاظ عليه، عبر العديد من الفعاليات الكبرى، وهذا هو المعنى الذي أكده سمو الشيخ هزاع بن زايد آل نهيان نائب حاكم أبوظبي، عقب زيارته "معرض أبوظبي الدولي للصيد والفروسية"، حين قال: "تملؤنا مشاعر الفخر بالمشاركات التي تقدّم صورة رائعة عن الإرث الإماراتي الأصيل وتعرّف الأجيال على معالمه الثرية، كما نسعد بأن تكون الإمارات منصة أساسية لتعزيز قيم الاستدامة البيئية من أجل مستقبل أفضل للبشرية".

‏‎ولعل المعرض الذي حظيت فعاليات دورته العشرين في مركز أبوظبي الوطني للمعارض بحضور إعلامي ودولي كبير هو أحد تجليات هذا الاهتمام، والذي نستطيع تتبعه أيضاً في التراث الشفهي لدولة الإمارات، بل يحضر بشكل كبير في شعر الشيخ زايد طيب الله ثراه.

فها هو يصوّر ببلاغة بديعة الصيد بالصقور، والعلاقة الحميمة بين الصقر والصقار:

‏‎يا طير وضبتك بتدريب
‏‎​​أبغي أصاوِع بك هِدادي
‏‎لي طارن الربد المهاريب
‏‎​لي ذايرات من العُوادي
‏‎القف لِهن عَساك م تخيب​​
‏‎واقصِد لقايدهن عنادِ
‏‎خمّه براسه خمّة الذيب​​
‏‎وعَليك ما ظني هِبادِ
‏‎وخل الهبوب تروح وتْييب
‏‎​ريش شعَى عقب المِصادِ

‏‎المتأمل في قصيدة الشيخ زايد، رحمه الله، يقف سريعاً على القيمة الكبرى التي يمثلها الصيد بالصقور، والتي بالإضافة إلى كونها رياضة جماعية، فإنها منظومة مهارات وفنون وعادات وتقاليد شديدة الصلة بإرث الإمارات وأهلها وطبيعتها وتاريخها.

يخاطب الشيخ زايد، طيب الله ثراه، طيره كما يخاطب الصديق صديقه، معتزاً بما بينهما من ثقة قامت على الصحبة والتجربة والمران والتدريب، يخاطبه بنبرة فخر ورضا، واثقاً في قوة الطير وقدرته على تحقيق الأهداف التي رسمها له من اصطياد أكبر وأسرع أنواع الحبارى بمهارة، ضارباً بذلك المثال لكل سعي جاد وصولاً إلى النجاح.

‏‎ولعل هذه الصورة الشعرية، وحضور الطائر هنا، هو أحد تجليات رؤية الشيخ زايد التي تهتم بالحفاظ على التوازن البيئي، كما تعبر عن قيمة "الصقارة" التي تتجاوز كونها نشاطاً بدنياً، لتصبح خزان قيم وثقافة وتقاليد جديرة بأن نحييها ونطورها.

‏‎رمزيّة الصقارة

‏‎ومما يرويه لنا الشيخ زايد، رحمه الله، يضعنا أمام حقيقة أهمية الصقارة: "ذات يوم ذهبت لرحلة صيد في البراري وكانت الطرائد قطيعاً وافراً من الظباء يملأ المكان من كل ناحية، فجعلت أطارد الظباء وأرميها، وبعد حوالي ثلاث ساعات قمت أعد ما رميته من الظباء فوجدتها أربعة عشر ظبياً، عندئذ فكرت في الأمر طويلاً، وأحسست أن الصيد بالبندقية إنما هو حملة على الحيوان وسبب سريع يؤدي إلى انقراضه، فعدلت عن الأمر واكتفيت بالصيد بالصقر.. وشيء آخر هام جداً أغراني بحب هذه الرياضة، ذلك أنها رياضة جماعية أكثر من كل أنواع الرياضات الأخرى".

‏‎فالاحتفال بتراث الصقارة ورعايته ليس بذخاً، إنما هو تمتين للدعائم الأصيلة التي تأسست عليها نهضة دولة الإمارات العربية المتحدة، واستكمال للبناء في مسيرة التنمية المستدامة والشاملة التي ترعاها القيادة الحكيمة.

‏‎رحم الله الراحل الكبير، والشكر، بلا شك، مستَحقٌّ لرعاة هذه الرياضة الأصيلة: سمو اﻟﺷﯾﺦ ﺣﻣدان ﺑن زاﯾد آل ﻧﮭﯾﺎن ﻣﻣﺛل اﻟﺣﺎﻛم ﻓﻲ ﻣﻧطﻘﺔ اﻟظﻔرة رﺋﯾس ﻧﺎدي ﺻﻘّﺎري اﻹﻣﺎرات، وﻣﻌﺎﻟﻲ ﻣﺎﺟد ﻋﻠﻲ اﻟﻣﻧﺻوري رﺋﯾس اﻟﻠﺟﻧﺔ اﻟﻌﻠﯾﺎ اﻟﻣﻧظﻣﺔ ﻟﻣﻌرض أﺑوظﺑﻲ اﻟدوﻟﻲ ﻟﻠﺻﯾد واﻟﻔروﺳﯾﺔ، ولكل القائمين على نجاح هذا الحدث البارز الذي صار أحد أشهر المعارض الإقليمية والعالمية، مستكملاً النهج الذي سار عليه المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان في تعزيز حضور هذه الرياضة التراثية الأصيلة في نسيج مجتمع الإمارات فكراً وتطبيقاً.

‏‎كما لا يتجلى الصقر في الثقافة الإماراتية، بحضوره المادي فحسب، وإنما بحضوره الرمزي، وهذا ما نلمسه في قول بليغ لزايد الخير، رحمه الله، يصف فيه أبناء الإمارات بالصقور حماة الوطن المخلصين:

‏‎مرحبا يا هلا حـي بالشهامـة
‏‎مرحبـا بالصـقـور المخلصـيـن
‏‎ضامنين الوطن صانوا احترامه
‏‎قدرهم عندنـا عالـي وثميـن
‏فالصقر هنا يأتي بالمعنى الرمزي ويقصد به "الضامنين" للوطن والذين صانوا احترامه، باحترام منظومة قيمه وعاداته وتقاليده وإرثه الثمين الغالي وتعزيز حضور تلك المنظومة في نسيج ثقافتها المعاصرة ورعاية بقائها ونموها في المستقبل.

مبادرات نوعية

الإعلام مرآة المجتمع، هذه العبارة القاعدة التي سمعناها من أساتذة العمل الإعلامي ورددناها كثيراً، واحدة من أصدق العبارات، فالإعلام حقاً مرآةٌ تعكس حضارة الأمم وثقافتها كما تعكس آمالها وطموحاتها، وحري به أن يعكس الواقع بلا مبالغة ولا تفريط.

‏‎وليس هدف الإعلام مجرد الترويج أو التعريف، إنما هو أداة تأمل وتفكير ونقاش بهدف تعزيز المعرفة بالقيم الأصيلة، وتوحيد الرؤى حولها، والحث على التكاتف من أجل استكمال المنجز، والدفع نحو مزيد من العمل والنجاح.

‏‎من هذه الزاوية تنبع أهمية دور وسائل الإعلام في صون الصقارة والتراث الثقافي غير المادي، وهو الدور الذي تمتد جذوره إلى عام 1976 حين أطلق المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان أهم مبادرة إعلامية في هذا المجال "مهرجان الصداقة الدولي الأول للبيزرة"، الحدث الذي شكل منصة إستراتيجية وضعها الشيخ زايد، أدخلت الصقارة في صلب الجهود المتنامية للحفاظ على البيئة وعلى هذا الفن العريق، وسهَّلت نقل خبراته وممارساته للأجيال المتعاقبة.

‏‎وﻓﻲ ﻋﺎم 2001 ﺗﺄﺳس "ﻧﺎدي ﺻﻘّﺎري اﻹﻣﺎرات" ﺑﮭدف ﻧﺷر اﻟوﻋﻲ واﻻرﺗﻘﺎء ﺑﻣﺳﺗوى رﯾﺎﺿﺔ اﻟﺻﻘور ﻓﻲ دوﻟﺔ اﻹﻣﺎرات وﻣﻧطﻘﺔ اﻟﺧﻠﯾﺞ اﻟﻌرﺑﻲ، واﻟﻣﺣﺎﻓظﺔ على هذا التراث المهم وﻧﻘل إرث اﻷﺟداد إﻟﻰ اﻷﺟﯾﺎل الجديدة.

‏‎وبفضل جهود صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله، الرئيس الفخري للاتحاد العالمي للصقارة والمحافظة على الطيور الجارحة، في مجال حماية التراث، وبفضل حرص سموه على التوازن البيئي والاهتمام برياضات الصيد والفروسية، رسخت دولة الإمارات مكانتها المرموقة في هذا المجال حين نجحت المساعي المشتركة لتسجيل الصقارة في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، وحصلت الصقارة عام 2010 على اعتراف عالمي بها تراثاً ثقافياً إنسانياً مستوفية كل الشروط والمعايير الدولية.

‏‎جهود بارزة

‏‎تضمنت هذه الجهود التأسيسية البارزة، بين ثناياها أدواراً إعلامية مهمة، لأن أهم ميزة من ميزات كل عمل حقيقي جاد أنه يمثل في حد ذاته مادةً إعلامية ثرية، بل منصة توعوية وتعريفية حقيقية يسهل معها على وسائل الإعلام القيام بواجبها ودورها في تسليط الضوء والتعريف وتكوين رأي عام داعم، وربط المنجزات بمجتمعها وبمحيطها المحلي والإقليمي والعالمي.

‏‎هذا هو دور الإعلام الذي نود التركيز عند الحديث عنه على مجموعة من النقاط الرئيسية:

أولاً: تقع مسؤولية تعريف المجتمع، بكافة أطيافه، بركائز تراثهم المعنوي -بالدرجة الأولى- على التعليم ووسائل الإعلام بأنواعها المتعددة.. ‏‎ونرى أن فنون الصقارة تستحق مبادرةً إعلامية خاصة، تعيدها إلى صدارة اهتمام المجتمع وتحيي هذا الفن الأصيل وما يرتبط به من أدبيات ومهارات وصناعات ثقافية، ولنا في نجاح برنامجي "شاعر المليون" و"أمير الشعراء" التلفزيونيين، قدوة مهدت الطريق وأكدت مدى نجاعة الإعلام في الوصول إلى الأجيال الجديدة بأساليب جذابة ومشوقة.. فمن كان يظن أن أمسية شعرية يبثّها تلفزيون أبوظبي تحظى بمتابعة ملايين الناطقين بلغة الضاد في أرجاء العالم الفسيح!

‏‎وهناك بالفعل عشرات المخطوطات التي قامت أبوظبي بتحقيقها وطباعتها وتقديمها في طبعات أصلية، كما جمعت مخطوطات قديمة في البيطرة والبيزرة، تحقيقاً لرؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان لصون هذا التراث والحفاظ عليه.

‏‎ثانياً: تتزايد عبر العالم دعوات الخبراء والمتخصصين في مجالات التراث المادي وغير المادي، مطالبين بتعزيز المحتوى الإعلامي المهتم بالتراث في وسائل الإعلام المختلفة، ومنحه المزيد من الاهتمام، وهي الدعوات التي تستحق الدعم والانتباه لعدة أسباب، منها دور التراث المهم في تعزيز ملامح الهوية الثقافية للشعوب، وتعميق علاقات انتماء الأفراد بحضاراتهم وموروثهم وتقاليدهم. كما أثبتت التجارب أن التراث بشقيه المادي والمعنوي إحدى أهم ركائز قيام الصناعات الثقافية ونجاحها، بما لها من دور كبير في تعزيز الاقتصاد عبر السياحة وصناعات الترفيه وغيرها من نشاطات اقتصادية وتجارية.

‏‎ثالثاً: ثمة ضرورة قصوى للتركيز على الإعلام بمعناه الواسع، الذي يشمل صناعة السينما والدراما وأفلام الكرتون والكتب باختلاف أشكالها... وغير ذلك من صناعات، لما يحققه ذلك من أهداف تتمثل في التوثيق، سواء عبر الأفلام الوثائقية المباشرة التي تتتبع أشهر الصقارين وأفضل الصقور وتاريخ هذا الفن، وأبرز أحداثه وعلاماته، أو عن طريق صناعة الترفيه والأفلام الموجهة للكبار وللناشئة والأطفال حسب أعمارهم.

‏‎رابعاً: علينا العمل على تحويل الصِّقارة في الإمارات إلى صناعة ثقافية متكاملة، خاصة بعد تسجيلها ضمن تراث الثقافة الإنسانية، ولدينا البنية الأساسية اللازمة لهذا التحول متمثلة في هذا المعرض الكبير ومؤتمره الرصين ونادي صقاري الإمارات، وغير ذلك من أنشطة مهمة. نحتاج فقط إلى جهد تنظيمي تتحول معه الإمارات إلى نقطة جذب سياحي ومركز صناعة ثقافية قائمة على الصقارة وما يرتبط بها من فنون ومهارات وصناعات وطرق عيش وآداب وشعر وفنون مطبخ وغير ذلك من تفاصيل.

‏‎بلا شك سوف يسهم ذلك في تنشيط قطاع السياحة ويجذب المهتمين بهذه الرياضة، سواء ممن يمارسونها أو يهتمون بمتابعتها من كافة أرجاء العالم. والإمارات هي الدولة الأقدر على النهوض بهذا الأمر، لما تحظى به الصقارة من اهتمام القيادة الحكيمة، ولصورتها الذهنية العالمية، ويحضرني هنا ما نشرته إحدى الصحف الأوروبية عندما سجلت الصقارة في اليونسكو، فكتبتْ: "بفضل الإمارات، ها هي الصقارة تستعيد اعتبارها وتنال ما تستحقه من الاهتمام. لقد عاد لنا تراث يعود إلى آلاف السنين".

‏‎خامساً: أظنني لا أذهب بعيداً حين أؤكد ضرورة الاهتمام بجانب التأليف العلمي المتعلق بفنون الصقارة، فقد تعلمنا أن الكتاب إحدى أبرز وسائل الإعلام.

إرث نفيس

‏‎ولا أبالغ إن قلت إن تأسيس أكاديمية ترعى التأليف العلمي في مجال الصقارة والفروسية على أرض الإمارات مطلبٌ له وجاهته، فقد ترك لنا باني هذا الوطن الشيخ زايد، رحمه الله -من ضمن ما ترك لنا من إرث لا يقدر بثمن- كتاباً بعنوان "رياضة الصيد بالصقور" سجَّلَ خلاله ملامح تجربته الفريدة في هذه الرياضة، مؤكداً أهميتها وما تحظى به من خصوصية وما تُكسبه لممارسيها من خصال حميدة.

‏‎تتسابق دول العالم لتسخير طاقاتها بهدف تعزيز حضور تراثها في نسيج حاضرها من أجل مستقبل أبنائها، وتجربة الإمارات قائمة في فرادتها على الجمع بين الأصالة والحداثة في بناء نادر ألهم العالم بأسره وجعل الإمارات نموذجاً في الوطنية المعتزة ذاتها المنفتحة على كافة الثقافات والشعوب تفاهماً وحواراً وسلاماً.

‏‎وإننا إذ نتطلع إلى أن يكون الجميع -أفراداً ومؤسسات- أطرافاً فاعلة ومُشاركة في جهود صون التراث، فإنني ممتن لإتاحة الفرصة لي كي أشارك في هذا الحدث الفكري البارز في عالم التراث والإعلام، واللغة العربية التي تزخر بإرث كبير ذي صلة بهذا الفن العريق.

.................

‏‎*جانب من كلمة أُلقيت في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر "دور وسائل الإعلام في صون الصقارة والتراث الثقافي غير المادي" الذي نظمه معرض أبوظبي الدولي للصيد والفروسية ضمن فعاليات دورته العشرين.