الأربعاء 24 يناير 2024 / 11:31

الصمت الإبداعي

"حبسة الكاتب" أو "الانسداد" أو "الصمت الإبداعي" كلها مصطلحات تشير إلى توقف المبدع عن الكتابة الأدبية، وقد يكون التوقف عن بدء مشروع كتاب جديد، أو التوقف خلال الكتابة.
إنه موضوع قديم جداً، قدم علاقة الإنسان بالكتابة، فأمثلته كثيرة، أذكر هنا مثالاً من التراث العربي، لشدّة دقة الوصف عن صعوبة الكتابة في بعض الأحيان. حيث جاء في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ما قاله الفرزدق عن هذا الأمر: "قد علم الناس أني فحل الشعراء، وربما أتت عليّ الساعة لقلع ضرس من أضراسي أهون عليّ من قول بيت شعر". إن ألم الضرس موجع، فكيف بقلعه؟ لكن هذا الألم أصبح أهون من قول بيت شعري واحد.
وقد أشار النقد العربي القديم إلى هذه الحالة، وكيف يمكن استثارة القريحة بعدة أمور منها الخروج إلى الطبيعة، وتذكر الأحباب، وقد فصّلها ابن رشيق القيرواني في كتابه "العمدة" في باب عمل الشعر وشحذ القريحة. أما في العصر الحديث فتعددت سبل شحذ الإلهام، واستدعاء الكتابة مثل المشي، الرياضة، النزهة أو رحلة قصيرة، الطبخ، أخذ حمام ساخن، أو حتى الذهاب إلى النوم.
وأرى أن الصمت أو الانسداد هو جزء من العملية الإبداعية، لكنه وقت يستثمر في القراءة، التي تستثير الأفكار، والعواطف أيضاً. الحبسة ربما تحدث للمبدع إن لم يكن مخططاً لعمله منذ البداية، متفكراً فيه وفي جوانب بنائه وحبكته قبل البدء في الكتابة أو طرأ تغيير على مخططه. وهذا الرأي يذهب إليه أيضاً أحمد مراد في كتابه "القتل للمبتدئين"، ويضيف أمراً جديراً بالتفكير، ألا وهو الحيرة التي توقف عن الكتابة بسبب كثرة الأفكار، تدافعها، وتنوعها، مع اختيارات كثيرة لدى الروائي توقفه عن المضي قدماً.
إن العلاج لا يكون بإجبار الذات على الكتابة، ولا بتركها لأشهر، وإنما بتركها قليلاً، ثم المراودة والمحاولة، والقراءة، فالقراءة ثم القراءة، مع الاستمرار في الكتابة المنتظمة، حتى لو كان شيئاً بعيداً عن المشروع الذي توقف عن كتابته.
إذا كان هذا حال المبدع في الحبسة والتوقف، ففي مقابلها يأتي التدفق في الكتابة، والأروع من ذلك حجز موعد معها. ألم يقرر نجيب محفوظ الكتابة يومياً في موعد محدد بعد عودته من عمله، وتناوله للغداء، وقيلولته القصيرة، ثم يكتب بشكل منتظم؟ ألا تفعل ذلك إيزابيل الليندي في 8 يناير(كانون الثاني) من كل عام؟ نعم، هذا ما تفعله منذ أربعين سنة! لابد هنا من الإشارة إلى أن الكاتبين معروفان بالتخطيط للعمل الأدبي، بكتابة ملخص عن الرواية، مع شخصياتها وتفاصيلها لدى محفوظ.. إن هذا الاستعداد المكتوب خطياً يحفز العقل اللاواعي، ليتدفق جنباً إلى جنب مع العقل الواعي.
أختم هنا بقول نورمان ميلر بأن تحديد موعد مع الكتابة يجعل العقل اللاواعي مستعداً للكتابة. يختم ميلر اقتراحه بـ: ثق بي.