الإثنين 11 مارس 2024 / 12:18

كتب مبصرة (1-8)

"القُدس.. مدينة واحدة عقائد ثلاث".. صراع الجغرافيا المُقدّسَة 


"تأتينا الكُتُب محمّلة بمعرفة ـ يقينية أو ظنية ــ هي بنات أفكار مؤلفيها، فتأخذنا معها إلى عوالم المتعة، والبحث، والمساءلة أحيانا، ومن خلال البصيرة ـ تدبراً وتأملاً ـ نستحضر معها الماضي، ونعيش معها الحاضر، ونتسابق معها نحو غد واعد، فتبدو لنا الأماكن مفتوحةـ والزمن ممتدا، حتى لو كانت الكتب متعلقة بقضية واحدة، تنوعت الرؤى حولها، وتعددت طرق البحث فيها، على النحو الذي سنراه في هذه القراءة الرمضانية لثمانية كتب، خاصة بموقع 24:


تَتبَّع المؤلفة البريطانية "كارين أرمسترونج Karen Armstrong" في كتابها" القدس.. مدينة واحدة عقائد ثلاث" JERUSALEM One City Three Faiths "ظهور الجغرافيا المقدسة منذ بداية التاريخ، وتطبيقات تلك الفكرة وآثارها التي كان من بينها نشوء مدينة "القدس ـ أورشليم".
وحديث أرمسترونج حول القدس هنا، لا يكتفي بالتنظير لجهة الشرح والتحليل، ولكنه يطرحُ بعداً معرفيّاً قائماً على حقائق وشواهد تاريخية مُثْبتَة، ولا خلاف حولها بين أهل العقائد الثلاث ـ اليهودية والمسيحية والإسلام ـ من الناحية المعلوماتية، لكن الخلاف كله حول التحليل، خاصة الجوانب المتعلقة بالأسبقية في المكان من الناحية الوجودية.
في عرضها لتاريخ المدينة الدموي منذ قرون خلت حتى الوقت الراهن ــ بما يحمله من مأساوية ودموية وعبثية ــ تبدو الحقائق دامغة، وزادتها عمقاً ووضوحاً وشمولية الرؤية العلمية لدى المؤلفة، وما كان غامضاً منها وتطلّب الشرح تكفل به المترجمان د. فاطمة نصر، ود. محمد عناني.
وبذلك اعتبر الكتاب مرجعاً أساسيّاً لمن أراد أن يعرف تاريخ مدينة القدس بموضوعية، رغم تشابك الخيوط المرتبطة بالتفاصيل المذهلة، والتي أسهمت بشكل واضح في بلورة رؤية، لا أحسبها تخص الكاتبة وحدها، كونها تعنينا جميعا، سواء الذين يعيشون ويلات الصراع داخل القدس، أو أولئك الذين هم خارجها لكنهم متأثرين ـ نسبيا ـ بما يحدث فيها.

تجليَّات التّاريخ

ورغم القراءة التي اعتمدت عليها المؤلفة من ناحية تعاقب الأزمنة لتوضيح مكانة القدس، فهي ترى في التاريخ ــ باعتباره أسَّسَ للصراع الراهن بين سكانها ــ بُعْداً زمنيَّا آنيّاً بالنسبة لها، وقد يكون ذلك بالنسبة لنا جميعا، وفي هذا الصدد تقول أرمسترونج: "يتجلى التاريخ في القدس، أكثر مما يتجلى في أي مكان زُرْته باعتباره بعداً من أبعاد الحاضر، وقد يكون شأنها في ذلك شأن كل منطقة مثار نزاع.." (ص 7)
التاريخ في شموليته وعمومه، وحتى في تفاصيله، يبدو أكثر إنصافاً وعدلاً عند الكاتبة أثناء سرد الأحداث وتحليلها مقارنة بعناوين فصول الكتاب، التي حملت في معظمها ما يشي ـ مسبقاً ـ بميل للرواية الإسرائيلية، وحتى الصهيونية في التعاطي مع الوضع الحالي للقدس، مقارنة بحيِّز التناول للمدينة في سياق وجودها المسيحي والإسلامي، إذْ حَمِل من الفصل الأول إلى التاسع عناوين تخص اليهود دون سواهم، وكذلك بالنسبة للفصلين السابع عشر والثامن عشر.
بالنسبة للفصول التسعة نجد الأسماء الآتية: صهيون، إسرائيل، مدينة داود، مدينة يهودا، المنفى والعودة، أنطاكية في يهود، التدمير، إليا كابيتولينا، أورشليم الجديدة، في حين حمل الفصل السابع عشر عنوان: إسرائيل، والثامن عشر عنوان: صهيون.. وهكذا بدأت فصول الكتاب بهذا الاسم وانتهت إليه، وتوزعت الفصول السبعة المتبقية بين النصارى والمسلمين، وحملت العناوين الآتية: مدينة مسيحية مقدسة، بيت المقدس، القدس، الحملات الصليبية، الجهاد، مدينة عثمانية، الإحياء.

الـتّأمل.. وتبجيل الأماكن

ومع أن الخلاف بين أحقيّة أتباع الديانات الثلاث في القدس قد بلغ الذروة، لدرجة الصراع والحرب والقتال الدائم كما هو في الوقت الحالي بين سكان فلسطين من يهود وعرب ـ حتى أنه خرج عن نطاق مدينة القدس ليشمل فلسطين كلها ـ فإن الأصل في هذا الصراع كما ترى كارين أرمسترونج "آتٍ من كون أن تبجيل الأماكن المقدسة قد سبق كل تأملات الإنسان في طبيعة العالم"(29)
وانطلاقاً من ذلك، فإن قداسة المكان من المبادئ التي تشترك فيها جميع الثقافات، وأنه لم يكن الإيمان بأن بعض الأماكن مقدسة، ومن ثم هي تصلح لإقامة الإنسان فيها، إنما يستند على البحث العقلاني أو حتى التأملات الميتافيزيقية لطبيعة الكون، وهذا ما توحي به الجاذبية أو الشد لأماكن بعينها حيث تملك سحرا لا يقاوم، وعلى هذا الأساس يمكن النظر إلى مدينة القدس، حيث نجد أن بعضا ممن يدافعون عن قدسيتها من أتباع الديانات الثلاث ممن يعتبرون أنفسهم عادة من غير المؤمنين أو على الأقل غير ملتزمين دينيّاً.
إن هذا النوع من التحليل والبحث والدراسة، يُرجَح لدينا ضرورة وضع الصراع الدموي الآن في ظل المقدس الدنيوي، وليس الديني، وهذا بالاعتماد على الشرح الذي وفّت به أرمسترونج على طول صفحات كتابها، بجانب توضيحها لتحالف اليهود والفلسطينيين في أعمال قتالية، كما في عهد الملك النبي داود عليه السلام، أو تعايشهم وتعاونهم في محطات بعينها من تاريخهم المشترك، وفي ذلك استجابة لاحتياجات إنسانية أساسية، وأهمها: الاعتراف بحق الوجود في ظل تمرد على فضاءات الجغرافيا المقدسة.