جراحون في قاعة عمليات (أرشيف)
جراحون في قاعة عمليات (أرشيف)
الأحد 24 مارس 2024 / 20:52

كلية الخنزير

يوزع التقويم الصيني، السنوات القمرية على الحيوانات الأهلية والمتوحشة والخرافية، مثل النمر، والقرد، والتنين، ولكن يبدو أن عام الخنزير في الرزنامة الصينية في 2031، سيفرض نفسه على العالم والناس طويلاً، من الآن.

تناقلت وسائل الإعلام الدولية في اليومين الماضيين، خبراً لم يلق نصيبه من الاهتمام والعناية في عالم مشغول بهول الكارثة في غزة، ومذبحتها على مرأى ومسمع من العالم، وتواصل الحرب الروسية في أوكرانيا، وتآكل قدرات الغرب على دعم كييف ضد موسكو في الحرب المصيرية، واقتراب انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو(حزيران) المقبل، ثم بعد أشهر من ذلك الانتخابات الأمريكية، وشبح عودة ترامب إلى المكتب البيضوي من جديد.
وفي الوقت الذي احتل فيه خبر زراعة أول كلية خنزير"مؤنسن" بإدخال تعديلات على خارطته الجينية، تجعل أعضاءه ذات أصول جينية بشرية قابلة للانتزاع لاحقاً لزراعتها في جسم مصاب بالقصور الكلوي، الصفحات الأولى في صحف العالم، بعد التأكد من نجاح العملية، وسلطت عليه قنوات التلفزيون، والإذاعات، الضوء من أكثر من جانب، فإن عالمنا العربي، لم يخرج عن المألوف والمعتاد، فاستمر في اجترار ما تيسر له على شاشات الفضائيات والمواقع، من مقالب سخيفة، ومسلسلات رمضانية هزيلة، طرح الخنزير نفسه علينا فجأة مثل الصاعقة.
وخبرالخنزير، ليس مجرد فتح علمي أو طبي، يمكن أن ينقذ آلافاً من المرضى بالفشل الكلوي من الموت، بل هو مبحث علمي وطبي وأخلاقي وديني، سيضع العقل العربي والمسلم، في مأزق حقيقي إذا لم يسارع النظام المعرفي والعقلي العربي، إلى فرض نفسه على المتحولات التاريخية التي نشهدها في كل يوم وكل ساعة.
جاء في الخبر، أن الخنزير الذي تبرع بكليته، أو انتزعت منه طوعاً أم غصباً، أهلي داجن، وليس برياً، وأن كليته هي الوحيدة بين كلى كل الحيوانات والكائنات الحية، التي يمكنها أن تحل مشكلة علاج القصور الكلوي، وأيضاً مشكلة قلة عدد المتبرعين بالكلى ليس عربياً  وعالمياً أيضاً، وذلك إلى جانب حلول طبية أخرى كثيرة، تبين أنها لا تتوفر في غير الخنزير، مثل علاج الحروق الخطيرة، وإصلاح الجلد، والكبد، وحتى القلب، لأن الخنزير وحده بين كل المخلوقات شديد التشابه والقرب من البشر في تركيبة وتشكيل الخلايا والأعضاء.
ويبدو، أن أثر صدمة هذا الفتح العلمي الجديد، لم يصل بعد إلى العالمين العربي والمسلم، فلم يُفت شيوخه في المسألة، بعد فلم يحرموها، ولم يحلوها، رغم أن العالم العربي من أكثر أقاليم العالم تعرضاً للفشل الكلوي، مقارنةً مع باقي أقاليم العالم، بسبب تضافر عوامل عديدة، أبرزها تفاقم الأمراض التي تتسبب بدورها فيه، خاصةً مرضي ارتفاع ضغط الدم، والسكري.
وربما كان سبب هذاالصمت، الورطة التي تردى فيها الذين يفترض فيهم أن يتصدوا لمثل هذه المسائل، فهل يحرمون كلية الخنزير لإنقاذ المريض، أم يبيحون الضرورة، مع ما يمكن أن يسببه ذلك من ردود فعل، ورفض واسع مصدره قطاعات واسعة من الرأي العام في الدول العربية؟
قلت في ما تقدم إن هذا الفتح العلمي، يسبب أزمة حقيقية للعقل الديني أو الفقهي التقليدي في العالم العربي والمسلم، لأنه فرض على "أهل الرأي" و"العلماء" أسئلة محرجة فعلاً، فالخنزير الداجن، غير البري، ورغم الاشتراك في النوع، فإن الخلافات بينهما كثيرة وشديدة أحياناً، ولكن العقل الديني التقليدي، لم ينتبه إلى الأمر مبكراً وظل على ما هو عليه من تحريم لهذا الحيوان، دون أن يعني هذا التأكيد أي تشكيك في التحريم، أو رغبة في مناقشته، بقد ما يعني أنه إصرار على مطالبة أهل الحل والعقد، بالرأي والدليل.
والمشكلة الثانية، التي يطرحها هذا التحدي، فستكون حتماً، التصدي لإقناع الناس بالتحريم، رغم أن الخنزير الذي أنقذ المريض، معدل جينياً ووراثياً، أي أن لا علاقة له بالحيوان الأصلي، بنوعيه الداجن والبري، فهو صنف ثالث أو فصيلة محورة علمياً، لتفرز كلى طبيعية، مناسبة للبشر، فهل يجوز اللجوء إليها؟ لأنها لم تنتزع من خنزير بالمعنى التقليدي، أم لا يجوز، لأنه خنزير رعم كل شيء، وإن لم يكن كذلك مئة في المئة؟
وبعد الكلية، يبدو أن الخنزير الطيب قادر أيضاً على توفير حلول عملية وسريعة لمشاكل كثير يعاني منها البشر، من القلب، إلى القرنية، ومن الكبد، إلى الجلد، فهل نترك آلافاً أو ملايين ينهشهم الألم ثم الموت، أم نقدم الضرورات على المحظورات، وفي النهاية الإنسان باعتباره الأهم في الكون، على الموروث من النص، والمأثور من القول؟ تأكيداً لما جاء في سورة المائدة "وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً".
ويبدو أيضاً أن العقل الجمعي العربي، الذي لم يلتف بعد إلى "عام الخنزير" الذي داهمنا فجأة، لا يزال مثقلاً بموائد ومآدب رمضان، وربما يستعيد بعض نشاطه، بعد انقضاء الشهر الكريم، فيثبت أنه على الطريق إلى قرن جديد من العقلانية، أو يكتم أي نفس يهدد بالتمرد على قوالبه البالية، ويخنق في المهد أي محاولة لنحت كيان عقلي وثقافي وديني عربي جديد، أخيراً.
ثم ماذا يمكن أن يكون الرأي الفقهي، في الناجي من الموت بكلية الخنزير، فهل هو نجس، لأن فيه بعض نجاسة الخنزير المفترضة؟ وهل ستقتصر النجاسة على العضو المزروع وحده، ولا تؤثر على سائر أعضاء الجسد، رغم تضامنها الكامل بفضل الدم الذي يمرعبرها، ما يفترض تلويثها بالضرورة كاملة غير منقوصة.
وما رأي أهل الفقه، في الناجي من الموت بفضل الخنزير؟ ثم في نسله وأبنائه، فهل تطالهم النجاسة كاملة أو جزئياً؟ وما موقفهم ممن يعيش بكلية، وقرنية، وكبد خنزير مثلاً؟ علماً أن أصلها بشري جينياً.
أسئلة لا يبدو أن الردود عليها ستكون متاحة قريباً في هذا الجزء من العالم، رغم أن تقنية اللجوء إلى الخنازير ستصبح هي القاعدة الطبية الأولى في علاج هذا المرض في مناطق كثيرة من العالم قريباً، في انتظار زراعة القلب، أو الكبد والأمعاء، وغيرها، بعد التأكد من التعديلات الجينية الضرورية، لضمان قبولها من جسم الإنسان، وخفض معدلات الرفض، أو التعفن، وضمان نجاح هذه العمليات على نطاق واسع.