الجمعة 19 أبريل 2024 / 13:11

مسلسل "أسياد الجو" يكشف طبيعة الحروب في الشرق الأوسط

يرى جيمس هولمز، أستاذ كرسي ج. س. ويلي للاستراتيجية البحرية في كلية الحرب البحرية وزميل غير مقيم في كلية الشؤون العامة والدولية بجامعة جورجيا، أن التاريخ يكتب كلما وقعت مواجهة بين أسراب طائرات دول متحاربة في السماء.

لا يقدم مسلسل "أسياد الجو" حكاية بطولة جوية فحسب

وقال الكاتب إنه أنهى للتو مشاهدة مسلسل "أسياد الجو" من إنتاج توم هانكس وستيفن سبيلبرغ عن الحرب العالمية الثانية، وإنه يعكف حالياً على قراءة الكتاب الذي استُوحي منه المسلسل للمؤرخ دونالد ل. ميلر الذي يروي قصة قاذفات القنابل الأمريكية ورجالها الذين حاربوا سلاح الجو النازي.
وأوصى الكاتب في مقاله بموقع "ناشونال إنترست" بقراءة الكتاب ومشاهدة المسلسل لأنهما معاً يساعدان على رؤية تلك الحرب الجوية من المستوى الكلي إلى الجزئي بعد مرور 80 عاماً على وقوعها.

ويروي ميلر تاريخ هجمات قاذفات القوات الجوية الأمريكية الثامنة بالاشتراك مع سلاح الجو الملكي البريطاني بين 1942 و1945.

معالم الحرب الجوية في أوروبا

ويقدم المؤلف صورة لمعالم الحرب الجوية في أوروبا. فيصف مثلاً بحيوية التصميم الداخلي لقاذفات القنابل الأمريكية طراز B-17 Flying Fortress التي استخدمتها القوات الجوية الأمريكية الثامنة.

ويوضح أن هذه المقاتلة لم تكن طائرة ركاب آلية ضخمة، بل نظام أسلحة مُعقّداً للغاية يتطلب مهارة عالية للتعامل معه وسط تقلبات الأجواء ونيران العدو. 

ورغم ذلك، يستحيل أن يحيط علماً أحد بكل شيء، فمحاولة تغطية كافة جوانب حدث استمر لسنوات وشارك فيه آلاف المقاتلين تقتضي بالضرورة إغفال تجارب الطيارين وعائلاتهم وأصدقائهم، وقد يكون التاريخ مجموع سير حياة أفراد، لكن لا يمكن لأي مؤرخ أن يروي سيرة حياة كُل مَن شاركَ في الأحداث.

الدراما الإنسانية للحرب الجوية

لذلك يشكل المسلسل رفيقاً ممتازاً لكتاب ميلر، والعكس صحيح، ولنقل الدراما الإنسانية للحرب الجوية، يُضيِّق هانكس وسبيلبرغ نطاق رؤيتهما على مجموعة صغيرة من الطيارين أُطلِقَ عليها لقب مجموعة "المئة الدموية" بسبب نسبة الخسائر الفادحة التي تكبدتها في بداية الحرب.

ففي إحدى الغارات التي شنتها المجموعة في أكتوبر (تشرين الأول) 1943 على مدينة مونستر الألمانية، لم ترجع سوى قاذفة واحدة من أصل 13 قاذفة.
ويجعل المنتجون من مجموعة المئة نموذجاً مصغراً للوحدات الجوية الأمريكية الثامنة بأكملها.

وتشبه هذه المقاربة أسلوب فيلم "ميدواي" (2019) الذي ركَّزَ على مجموعة صغيرة من طياري القاذفات المُنطلقة من حاملة الطائرات "يو إس إس إنتربرايز"، وعلى رأسهم ديك بيست وويد ماكلوسكي.

وشأنه شأن مسلسل "أسياد الجو"، يقدم فيلم "ميدواي" صورة أكثر اكتمالاً إذا عُرِضَ مصاحباً لسرد تاريخي مطوَّل لتلك المعركة.

الطبيعة الدائمة للحروب الجوية

ولا يقدم مسلسل "أسياد الجو" حكاية بطولة جوية فحسب، بل يكشف عن الطبيعة الدائمة للحروب الجوية، بينما يرسم في الوقت ذاته خطاً مرجعياً لفهم كيفية تحوُّل طابع الحروب الجوية مع تغير الزمن والتكنولوجيا. 

أولاً، الحملات الجوية كهجوم القاذفات المشترك "تراكمية" بطبيعتها لا "تتابعية"، فلا يستولي طيارو مجموعة المائة الدموية على الأراضي ويتقدمون من مكان إلى آخر، بل ينقضون من فوق، ويمطرون ساحة المعركة مستهدفين أهدافاً صناعية أو عسكرية أو مدنية على الأرض، ويعود الناجون منهم، إنْ حالفهم الحظ، إلى القاعدة.

وقد يستيقظ أفراد الطاقم صباحاً، ويقاتلون قتالاً شرساً نهاراً، ويعودون إلى حانة مساءً، ويُعيدون الكرَّة حتى يكملوا المهام الخمس والعشرين إلى الثلاثين المطلوبة منهم. أو ربما لا يعودون.
وقارن مسلسل "أسياد الجو" بالمسلسلين الدراميين السابقين له من إنتاج هانكس وسبيلبرغ، وهما "عصبة الإخوة" و"الهادئ".

ويروي الأول قصة وحدة من الجيش الأمريكي تشق طريقها عبر أوروبا وصولاً إلى دفاعات النازي، بينما يروي الثاني قصة مجموعة مشاة بحرية استكشافية تتنقل بين جزر المحيط الهادئ باتجاه اليابان.
على النقيض من ذلك، لا تتحرك القوة الجوية في مسارات متصلة نحو وجهة نهائية معينة. فقد تشن مجموعات القوات الجوية الأمريكية الثامنة غارات على هامبورغ ذات يوم، وعلى برلين في اليوم التالي، وقد لا يعرِف أفرادها هدفهم إلا خلال جلسات الإحاطة التي تسبق التحليق.
وبتعبير آخر، تشن الحروب التراكمية هجماتها على العدو من خلال العديد من المواجهات الصغيرة في العديد من الأماكن على الخريطة.

ولا تعتمد أي معركة فردية على ما سبقها أو ما سيليها. وهذا النمط العملياتي التتابعي هو ما يؤدي إلى ظهور تأثير تناثر الطلاء.

وأسلوب الحرب هذا يستنزف العدو بإلحاق أضرار به على مراحل صغيرة، على أساس أن العديد من النجاحات التكتيكية الصغيرة قد تضيف إنجازاً كبيراً واستراتيجياً.
تجدر الإشارة إلى أن القوة الجوية والعمليات التراكمية الأخرى نادراً ما تكون حاسمة بحد ذاتها، إذ يتعين على القوة العسكرية حسم الأمور على أرض المعركة لتحقيق النصر، وذلك بانتزاع السيطرة على ما يلزم السيطرة عليه. والمُنتصر في الحرب البرية لا يبارح مكانه، في حين تنطلق القوات التراكمية وتضرب ضربتها ثم ترحل. وتُعدُّ العمليات الجوية والبحرية، والفضائية والسيبرانية الآن، أدوات تمكين لا غنى عنها للقوات البرية. 

ويقول: "لا يبدو مسلسل أسياد الجو معاصراً. لكنه في الوقت نفسه يبدو وكأنه مقتبس من عناوين الصحف الرئيسية. وما حروب الصواريخ والمضادات الصاروخية الجارية في البحر الأحمر وفوق إسرائيل إن لم تكن حملات تراكمية حديثة للغاية هدفها تقويض البنية التحتية المادية للعدو وتثبيط عزيمة حكومته وجيشه ومجتمعه؟"
ثانياً، لن نشهد بعد اليوم غارات بألف طائرة من النوع الذي صَوَّرَه مسلسل "أسياد الجو". كانت القدرة على حشد أعداد كبيرة من القوة القتالية في أماكن وأوقات حاسمة لإخضاع العدو أمراً ميسوراً خلال الحرب العالمية الثانية. ولكن لم يَعُد بمقدور القوات المسلحة الحديثة شراء القوة القتالية بكميات كبيرة.
سينفق سلاح الجو الأمريكي مثلاً نحو 750 مليون دولار على كل نسخة من قاذفة القنابل الشبح الجديدة طراز B-21 رايدر، وهي سليلة الطائرة B-17. ويطمح قادة سلاح الجو إلى امتلاك ما لا يقل عن 100 قاذفة طراز B-21، وهذا يعني تكلفة إجمالية قدرها 75 مليار دولار للأسطول بأكمله.
ولن تؤدي رحلة بألف قاذفة من طراز B-21 إلا إلى تكبيد دافعي الضرائب الأمريكيين عشرة أضعاف هذا المبلغ، أي 750 مليار دولار، لشراء هذا الأسطول وحسب. وتعتمد القوات الجوية الحديثة على طائرة الشبح والتوجيه الدقيق وغيرها من الابتكارات العصرية لتوجيه القوة النارية وتعويض العدد الأقل من الطائرات التي يمكنها تحمل تكاليفها. ولكنها لا تستطيع أبداً أن تضاهي القوات الجوية الأمريكية الثامنة في روعتها.
ثالثاً، يُذكِّر مسلسل "أسياد الجو" المشاهدين والقراء كيف أن الحروب تُفنِّد الافتراضات التي تسبقها. فالمعارك هي الحَكَم الحقيقي على ما يُجدي في المساعي الحربية. حسب مصممو قاذفة القنابل B-17 أن "القلعة الحصينة الطائرة" تستطيع الدفاع عن نفسها ضد هجوم المقاتلات إذا زُوِّدَت بعدد كبير من المدافع الرشاشة الثقيلة القادرة على توفير تغطية بزاوية 360 درجة. ويمكن أن تستفيد مجموعة القاذفات المئة من مرافقة المقاتلات، لكنها ستتمكن من اختراق صفوف العدو بخسائر مقبولة فور أن يَنفَد وقود مرافقيها قصيرة المدى وتضطر للعودة إلى قواعدها.
لم يَطُل الأمر بطياري سلاح الجو الألماني حتى اكتشفوا نقطة الضعف في هذه الخطة. وسرعان ما ابتكر الطيارون الألمان تكتيكات للهجوم المباشر، وبدأت أكثر مراحل الحرب الجوية دمويةً. واتضح أن الدفاع السلبي لم يكن كافياً. لم يتمكن طيارو قاذفات القنابل التابعون للقوات الجوية الأمريكية من التحكم الحقيقي في المجال الجوي إلا بعد أن حشدَ سلاح الجو الأمريكي مقاتلات بعيدة المدى، وعلى رأسها المقاتلة P-51 Mustang.

تبني التفكير العلمي

واختتم الكاتب مقاله بالقول: "تعتمد كل استراتيجية وكل تصميم عملياتي وكل نظام أسلحة على افتراضات. لكنَّ مسلسل (أسياد الجو) ينتقد ضمناً المستمسكين بافتراضاتهم. فمن الأفضل تبني التفكير العلمي المـتشكك والمرونة الذهنية التي تُلازمه. ستحدث أمور مخالفة للتوقعات في الحرب. ومن الضروري التحوط لها".