الإثنين 10 يونيو 2024 / 13:46

الشاعر الألماني يواخيم سارتوريوس.. لمسة إنسانية وصمت يفيض بالمعاني

عندما يسمع المرء كلمات إنسان، بلطف وشفافية يواخيم سارتوريوس، لا يسعه سوى الإصغاء إليه في هدوئه، متمنياً لو لم يتوقف المتحدث حتى يطول الإصغاء إلى صمت يفيض بالمعاني. حياة الشاعر الألماني يواخيم سارتوريوس غنية بتنوع الأمكنة التي عاش فيها، وثقافته الواسعة. فهو ابن دبلوماسي ألماني، تنقل مع عائلته كثيراً. تعلم في مدارس تونس والكونغو والكاميرون وفرنسا، إلى أن درس الحقوق في ميونخ ولندن وشتراسبورغ وباريس، حيث يحمل شهادة الدكتوراه فيها.
سار الشاعر سارتوريوس على نهج أبيه في اختيار وظيفته الأولى في السلك الدبلوماسي من عام 1974 حتى 1986، إذ كان ملحقاً ثقافياً في نيويورك وملحقاً صحفياً في أنقرة حتى حطت به الرحال في نقوسيا. بعدها انتقل إلى وظائف تصله بالحياة الثقافية المباشرة، فعمل مديراً للبرنامج الثقافي للهيئة الألمانية للتبادل العلمي، وأصبح في عام 1994 عضوا في فريق التخطيط في وزارة الخارجية الألمانية. وفي عام 1996 تقلد منصب الأمين العام لمعهد غوته. ثم تسلم عام 2001 مسؤولية الإدارة العامة للبرلينير فيستشبيليه. واعترافاً بأدبه وإبداعية نال عضوية الأكاديمية الألمانية للغة والشعر.
شاعر رحال، لم يتوقف عند مكان ولا عند حدود. أسفاره ومسؤولياته جعلت منه الشاعر المنصت للثقافات والشعوب. كل ذلك كان له وقع خاص على معرفته بالعالم العربي وثقافته وشعرائه وفنانيه. جذبني في يواخيم سارتوريوس، منذ بداية تعارفنا، شغفه بالشعر العربي الذي يحب سماعه رغم أنه لا يجيد العربية. وشغفه بهذا الشعر ليس بأقل من شغفه بالأدب العالمي.
لأعمال يواخيم سارتوريوس مكانتها في الحياة الشعرية الألمانية. وهو إلى ذلك ناثر ومترجم جدير بالتقدير. فقد نشر الشعر والنثر، وترجم الأدب العالمي. دلّتْه موسوعيته وتفاعله مع الحركة الثقافية في العالم على ربط الجسور بين الثقافة الألمانية والثقافات العديدة، من خلال مساهمته في التعريف بالكثير من الأدباء من مختلف أنحاء العالم وحث دور النشر الألمانية على ترجمة ونشر أعمالهم. إنه شاعر الحوار الإنساني، الذي يربط بين أخلاقية شاعر حديث ومثقف ملتزم بقيم الإنسانية المتمثلة بالالتقاء بين الثقافات والحضارات.
شعر سارتوريوس ينزع نحو الحياة بمعناها الواسع والعميق. ففيه نقرأ صور المدينة والطفولة والسفر والجسد. ذلك ما يمنح قصيدته روح الانجذاب لتجربة ذاتٍ تعرف كيف تلتقط اللحظات المشعة في الحياة. تحافظ قصيدته على خصائص التعبيرية الألمانية مع انفتاحها على الشعر الإنساني في التفاعلات الثقافية والجمالية. وتظل القصيدة لديه شديدة التكثيف، قريبة من السوناتة، ومتخلصة من الصور التكميلية أو الزخرفية. في هذه القصيدة عذوبة الوحدة وفتنة اكتشاف المجهول. من ثم تكون شعرية قصيدته رصدا للواقع وانتقالا به إلى بُعد وجودي، تلتقي فيه تجارب شعرية أروبية وغير أروبية. ويمكن، في ضوء ذلك، أن نقرأ انجذابه إلى كل من غوفريد بن وقسطنطين كفافي وأرتور رامبو. إنه الباحث عند معنى الحياة من خلال ما نراه وما لا نراه، حيث ترحل القصيدة نحو المناطق العابرة التي تكشف عن أعماق متوارية تصبح بفضل كلمات الشاعر ناطقة بالأسرار.
لا فرق بين اللحظات الشعرية ما دام الجسد هو الذي يكتب بلذة الاكتشاف والكشف في آن.

 

ديانا

ما الذي سمحت له برؤيته
قبل أن يتحول؟ القدم،
الكاحل الأبيض، الظهر، الصدر؟
ماذا يرى المرء حين يرى؟
رأيت الهلال في شعرها.
رأيت ظهر الدنيا في الماء،
أنا من بذر الماء،
المعبر الجنوني السريع.
أنا من فرق بين ضوء وضوء.


لا شيء بعد ذلك.


صمت النحل
والعصافير والغيوم العابرة.
كأن هذا العالم يحدق في جسدي العاري في الماء.
هل رأيت شيئا؟
امتص جلدي الريح،
انكمش جلدي.
أشم رائحة المكان، حيث كانت،
حين غطست قدمها البيضاء في الماء،
أكشط قشر الصفصاف.
وهذا الضوء.
حافريّ يغوصان في الوحل.

 

ملح على العنق
(على باب عشتار في متحف بيرجامون، برلين)

زرقة الطلاء صماء. المكان المنهك، الخاطئ.
متعبة، تقول عشتار، فهم أغرقوني في الحب
كما أغرقوني في الحرب. متعبة، من هذه الحرب. علامات الإرهاق
السوداء حول العين. أنظر لعيني المشطورة!
أنت تقطف الخطوط البيضاء من زهرة الملح الخاوية على العنق.
متعب من الفروق بين الصباح والمساء،
بين أرض وأرض. متعب من الجسد وضوضاء
الكفين في عمق الجلد. الأُسود الصفراء
ليست سوى مرآة في المساء.
في الصباح، يا لرائحة المتحف!
عشقت الحارس، سرا،
وقلت مرة واحدة كلمتين: حب ونسيان.


هكذا يكذب الزجاج.
هكذا يخشخش النخيل.
هكذا هي شارات موت الملكة.