شاب أمام طريقين (تعبيرية)
شاب أمام طريقين (تعبيرية)
الإثنين 1 يوليو 2024 / 17:42

التطرف المضاد..نشر الإلحاد وتقزيم هوية المسلم

الغاية التي تنطوي عليها ثقافة العولمة وتنبثق منها الحداثة المادية في هذه المرحلة، هي محو الهويات ومحاربة التنوع الثقافي، والعمل على انسلاخ الأمم والشعوب عن ثوابتها، لتنصهر جميعاً في بوتقة وثقافة واحدة، وتمثل تحدياً حقيقياً يهدّد الهوية والثقافة في آن معاً.

القرآن خاطب العقل والحواس للبرهان على التوحيد.

هناك أزمة تصور لمفهوم الهوية التي لم نحدد لها معنى حقيقيًّا لشبابنا العربي، لأنّ الهُوية عند المسلمين  لها دلالة خاصة، فنحن أمّة متفردة ومتميزة بالقيم التي تؤمن بها، ومقوماتها التي تعتمد عليها هويتها "العقيدة" التي تعكس نظرتها للوجود بعقلانية بالغة، ومن ثمّ "اللغة العربية" التي تعبر عنها، وأخيرًا "التراث الثقافي" للأمّة الذى كان يومًا ما يمتاز بخصوصية- قلّما لها نظير- فاتخاذ المسلك القرآني العقلي البرهاني الذي يقوم على البديهيات والمسلمات، وإيقاظ العقول وإرشاد القلوب السليمة بالأدلة والحجج الدامغة، والاستدلال بالمظاهر الكونية، والتحدي الذى يكشف زيف الآلهة المزعومة، وإظهار الحق وإزهاق الباطل، هي صفاتها التي تميزها عن باقي الأمم لتعبر عن شخصيتها  الإنسانية والحضارية.
عندما يتنكّر شبابنا لهويتهم الإسلامية لأنهم يرونها هوية تم تشويها من الإعلام الخارجي فهي بالنسبة لهم تشكل عبئًا كبيرًا على كاهلهم، لاسيما أنّ هناك تساؤلات محيرة تحتاج إلى إجابة حاسمة مثل بعض مظاهر التمدن ومجاراة العصرية التي قد يراها بعض علمائنا الأفاضل تشددًا وغلوا أو يراها بعضهم انفتاحاً وتقدماً في حين يراها الآخرون إذلالاً وتبعية وذوباناً للهوية، والأدهى بين هذا التساؤلات غياب همزه الوصل العلماء بين الربانيين الذين يخاطبون الشباب بالعقلانية وبالحجة الداحضة، إذن هناك حلقة مفقودة بين ما المقياس الصحيح  أو المعيار أو الكيفية لتحديد التوجه نحو الحضارة  والتمدن الحديث دون أن يؤثر في القضاء على أصالتنا وخصوصيتنا وهويتنا الثقافية ؟!.
الهوية كما أحب أن أعززها في نفوس أبنائي بإظهار هوية الإسلام من خلال الأدلة التي تقرر سماحة الدين ويسره، وأنه دين ينافي الغلو والتشدد وإثباته بالأدلة والبراهين، وتأسيس فهم العقيدة بصورة صحيحة، وتوضيح أسباب التشريع يقنع العقل ويقبل به القلب، وإبراز التسامح الديني إزاء كل الأديان والثقافات، والتعايش السلمي وتوكيده من خلال أخلاقيات وثوابت هذا الدين، والتعريف بمظاهر الوسطية في الإسلام ، وتبيان أن الاجتهاد أكبر دليل على حيوية أحكام التشريع، وأنّ أحكامه الشرعية تتسم بالمرونة وتشريعاته قابلة للتجديد مع مستجدات العصر،  وتأكيد ذمّ التقليد كما أكده القرآن لكونه معوقًا للتفكير الصحيح، والحؤول دون بناء العقل الحر الطليق من القيود والتبعية للآخر، وصيانته من الافتتان بالثقافات الأخرى. هذه الوسطية الدينية التي يراد لها أن تتميز بالمرونة ومواكبة مستجدات العصر، متماشية مع الواقع المتغير، تتجدد وتُجدد، تنهل من الآخر تُبدع وتتحاور، وهو خيار لا محيد عنه في التحول نحو الأفضل، لكى لا يتم علينا فرض ثقافة يتم اجترارها بالتبعية من ثقافة الآخر . 
عمومًا الهوية  كما يراد لها لا تعني الانكفاء على الذات أو على التراث أو الثبات على نوعية معينة من الثقافة السائدة، وغالبًا ما يفهم هذا -التعريف الضيق- بطريقة تؤدي إلى نفور الشباب من ثقافتهم، وهو ما أوصلنا إلى الجمود والتشدّد والعنف، والأدهى أنّ الأمر انتهى بنا إلى الإلحاد الذي بات يطفو على السطح، وبات التطرف المقابل للتطرف الحاصل هو الغالب في المجتمع والاعلام العربي، لأن عقل المسلم غير مكتمل الأركان للوصول إلى الحقيقة الصريحة،  لو كنا نتدبر القرآن لوجدنا تنوع أساليبه في إقامة الحجة والبرهان، فهو قد خاطب العقل والحواس للبرهان على التوحيد، وفتح أبواب الحوار والمناقشات العقلية الحرة من أجل الوصول إلى الحقائق، وبث اليقين والاطمئنان، فالله عز وجل قد طلب البرهان من الذين اتخذوا من دونه آلهة، أو من أولئك الذين جعلوا الملائكة إناثًا- من الذين اتخذوا الولد معه سبحانه وتعالى عما يقولون ..الخ بقوله تعالى { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
وفي القرآن يتحداهم بالعقل ويناقشهم تارة يأتي بالحجة أو بالبرهان، وتارة بالسلطان أو آثاره من العلم، وكلّها مآثر قرآنية تؤسس لنهج عقلاني بحت يحمل بين طياته نفورًا من كلّ الأهواء والتخيلات والعواطف، ونبذ التقليد للآخر.. إلخ، وكلها من الآليات الضرورية التي أرادها القران لمواجهة الهيمنة الثقافية، وتحذيرات احترازية للمسلم مستقبلًا من مغبة الانحراف عن جادة الصواب، وتكوين هوية إسلامية تتسامى ببناء العقلية العلمية التي تعتمد على البرهان والحجة الدامغة، وترفض التبعية دون تعقل أو فهم، حينئذ تتجلى الهوية الواعية وتفصح عن ذاتها، دون أن تخلي مكانها لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة.