الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (أرشيف)
الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (أرشيف)
الجمعة 27 يونيو 2014 / 15:17

سر كراهية بورخيس لكرة القدم

24- أحمد شافعي

نشرت مجلة "نيوريببليك" في عددها الأخير، وبمناسبة مونديال البرازيل 2014، مقالاً يكشف سرّ كره الكاتب الأرجنتيني الكبير بورخيس لكرة القدم. في ما يلي نص المثال.

للوهلة الأولى يبدو عداء الكاتب الأرجنتيني لـ"اللعبة الجميلة" مماثلاً لعداء أي كاره من كارهي كرة القدم التقليديين في زماننا، ممن صارت سخريتهم مبتذلة الآن: كرة القدم مملة، تنتهي بالتعادل كثيراً، لا أحتمل ادعاء الإصابة.

كرة القدم منتشرة" قال خورخي لويس بورخيس "لأن الغباء منتشر".
 
وهذا صحيح: بورخيس قال عن كرة القدم إنها "قبيحة استطيقياً". وقال إنها "من أفدح جرائم إنجلترا". ويبدو أنه عمد إلى تحديد موعد إحدى محاضراته بحيث يتصادم مع مباراة الأرجنتين الأولى في كأس العالم سنة 1978. لكن نفور بورخيس من كرة القدم ينبع مما هو أشد إزعاجاً بكثير من الاستطيقا والجمال. إذ كانت مشكلته مع ثقافة جماهير الكرة التي كان يربطها بنوع من التأييد الشعبي الأعمى الذي رفع على أكتافه زعماء أبشع الحركات السياسية في القرن العشرين. إذ رأى الكاتب الكبير في حياته الفاشية البرونية [نسبة إلى الدكتاتور خوان دومينغو بيرون] بل ومعادة السامية تظهران في المشهد السياسي في الأرجنتين، فمن المنطقي للغاية إذن أن يتشكك بقوة في الحركات السياسية الجماهيرية، وفي الثقافة الجماهيرية بعامة وأبرز تجلياتها في الأرجنتين هي كرة القدم. (ولقد كتب مرة يقول إن في كرة القدم "فكرة السيادة والسلطة، وهي فكرة تبدو لي مريعة"). وبسبب معارضة بورخيس للدوغمائية مهما يكن شكلها، فكان طبيعياً أن يرتاب في ولاء بني وطنه غير المشروط لأي معتقد، ولو لم يزد عن المنتخب الوطني.

ترتبط كرة القدم ارتباطاً لا فكاك له بالوطنية، وهذا موضع اعتراض بورخيسي آخر على الرياضة. إذ قال إن "الوطنية تسمح باليقين والقطع، وكل عقيدة تنبذ الشك والنفي ما هي إلا فنتازيا أو غباء". والمنتخبات الوطنية تؤجج المشاعر الوطنية، وتخلق للحكومات معدومة الضمير فرصة أن تستغل لاعباً نجماً فتجعل منه بوقاً لها تنال من خلاله شيئاً من الشرعية. والحق أن هذا ما حدث فعلاً مع أحد أعظم لاعبي اللعبة في تاريخها: بيليه. "ففي الوقت الذي كانت حكومته تعتقل المنشقين، علّقت ملصقاً كبيراً لبيليه وهو متأهب لتصويب الكرة برأسه إلى المرمى، وبصحبتها شعار يقول: ما لأحد أن يوقف هذا البلد الآن" بحسب ما يكتب ديف زيرين في كتابه الجديد "رقصة البرازيل مع الشيطان". بوسع الحكومات، لا سيما الدكتاتوريات العسكرية التي كان بيليه يلعب في ظل إحداها، أن تستغل ارتباط الجماهير بالمنتخب الوطني في خلق تأييد شعبي جارف، وذلك ما كان بورخيس يخشاه في كرة القدم ويزدريه.

ولبورخيس قصة قصيرة عنوانها "Esse Est Percipi" قد تفسر كراهيته لكرة القدم، ففي منتصف القصة تقريباً يقال إن كرة القدم لم تعد رياضة في الأرجنتين، بل إنها دخلت إلى عالم الفرجة. في عالم القصة الخيالي، باتت السيادة لصورة الشيء لا للشيء نفسه، فصورة الرياضة حلت محل الرياضة الفعلية. وفي القصة رئيس لأحد أندية كرة القدم يقول إن "هذه [الرياضات] لا وجود لها خارج تسجيلات الاستوديو وصفحات الجرائد. وكرة القدم تبث التعصب وتغرسه في الأنفس، حتى أن جماهيرها قد يتابعون في التلفزيون أو المذياع مباراة لا وجود لها دونما شك أو مساءلة:
"حلت اللعنة على الملاعب، صارت حطاماً، وكل شيء الآن مرتب للشاشة والمذياع. هتاف المعلق الزائف ـ ألم يحملك يوماً على الظن بأن الأمر كله زيف؟ لقد لعبت آخر مباراة لكرة القدم في بيونس آيرس في 24 يونيو 1937. ومنذ تلك اللحظة، باتت كرة القدم، وكل الألعاب الرياضية، تنتمي إلى نوع من الدراما، يؤديه شخص واحد في استديو، أو بضع ممثلين أمام كاميرات التليفزيون".

جذور هذه القصة ترجع إلى انزعاج بورخيس من الحركات الشعبية، وهذه القصة توجه عملياً إصبع الاتهام إلى الإعلام، تتهمه بالتواطؤ على خلق ثقافة جماهيرية تبجّل كرة القدم، فيصبح الشعب كله من ثم غير محصن ضد الديماغوجية والخداع.

الانتماء إلى نسق كوني كبير 

 يرى بورخيس أن الناس تحتاج إلى الانتماء إلى نسق كوني كبير، إلى شيء ما أكبر من أنفسهم. فيوفر الدين هذه الخدمة للبعض، وكرة القدم توفره للبعض الآخر. والشخصيات في الأدب البورخيسي غالبا ما تتعلق بهذه الرغبة، فتنتهي مؤدلجة أو منضمة إلى حركات كارثية: فالراوي في قصة "القداس الألماني" يتحول إلى اعتناق النازية، أما في قصتي "يانصيب بابل" و"المؤتمر" فتتحول منظمات بسيطة بريئة المظهر إلى أجهزة بيروقراطية استبدادية هائلة الأحجام تفرض العقوبات البدنية القاسية وتحرق الكتب.

إننا نرغب في الانتماء إلى ما هو أكبر، لدرجة أننا نعمي أعينا عن العيوب التي تظهر في هذه الأنساق الكبيرة، أو العيوب التي تكون كامنة فيها منذ بدايتها. ولكن غواية هذه السرديات الكبيرة، مصداقاً لما يذكِّرنا به راوي "المؤتمر"، غير بسيطة في أغلب الحالات: "ما يهم في حقيقة الأمر هو الشعور بأن نسقنا، الذي سخرنا منه غير مرة، كان موجوداً في السر، كان هو العالم، كان هو نحن".

هذه الجملة وصف دقيق لما يشعر به الملايين على ظهر الأرض تجاه كرة القدم.