"لن أموت قبل أن أخبركم"، قالها الأبنودي مرة، ساخراً من شائعات موته المتلاحقة، إلا أن الشائعات تحولت إلى حقيقة، ليرحل شاعر "عدى النهار" عن عمر يناهز 76 عاماً، تاركاً وراءه إرثاً كبيراً من الأعمال الشعرية والغنائية.

في 11 أبريل (نيسان) عام 1939، ولد عبدالرحمن محمود الأبنودي في قرية أبنود بمحافظة قنا في صعيد مصر، لأب يعمل مأذوناً شرعياً، وأم تدعى فاطمة قنديل كانت سجلاً لكل أشعار القرية وطقوسها، ليستمع منها في طفولته وشبابه إلى أغاني السيرة الهلالية التي تأثر بها كثيراً.

حبه كلام
حمل قطار من الصعيد الأبنودي في بداية الستينيات مع صديقيه، الشاعر أمل دنقل، والأديب يحيى الطاهر عبد الله، إلى مدينة قنا، ليقتسم الثلاثة فنون الإبداع، لأمل الشعر الفصحى، وليحيى القصة والرواية، وللأبنودي شعر العامية الذي شكل علامته الفارقة.

ورغم أن والد الأبنودي لم يتحمل في ذلك الوقت ما يكتبه ابنه فمزق ديوانه الأول "حبة كلام"، إلا أن موهبته الطاغية لم تتأثر برأي والده، فأرسل مجموعة من قصائده بالبريد إلى صلاح جاهين، الذي لم يكتف بتخصيص عموده في صحيفة "الأهرام" للشاب الجنوبي، بل أرسل قصيدتين له إلى الإذاعة ليبدأ تلحينهما، وهما "بالسلامة يا حبيبي" لنجاح سلام، و"تحت الشجر يا وهيبة" لمحمد رشدي.

الهزيمة صنعته
وفي القاهرة، بدأ "الخال" كما عُرف بين أقرانه والمقربين منه، بنظم قصائده باللغة العامية، كما التحق بأحد التنظيمات الشيوعية، فألقي القبض عليه ( 1966)، وأثناء اعتقاله لمدة أربع شهور في سجن القلعة أخذت المباحث مخطوط ديوانه "جوابات حراجي القط"، ليعيد كتابتها وطبعة الديوان فور خروجه

وداخل السجن، اكتشف عبد الرحمن أن "الشيوعية ليست طريقاً لتحقيق الذات أو تقديم خير إلى الفقراء"، وجاءت النكسة ليرى كل الأحلام تنهار، وكتب وقتها أغنيات وطنية لعبد الحليم حافظ منها "عدى النهار" التي أعادت الانتعاش الوطني للروح المصرية ومن ثم الروح العربية، كما خرج إلى الجبهة ليكتب ديوانه "وجوه على الشط".

منفى اختياري
في تلك المرحلة، وفر له إعجاب الرئيس جمال عبد الناصر بأعماله حماية، وبعد استلام أنور السادات الرئاسة، بدأ التضييق الأمني على الأبنودي، إذ رفض "أمن الدولة" سفره إلى تونس ليستكمل مشروعه في جمع السيرة الهلالية.

استطاع الأبنودي الخروج من مصر بعدما يأس الأمن منه، واختار الشاعر لندن منفى اختيارياً لثلاث سنوات، أنهاها عبد الحليم مستخدماً "سلطته" في السماح له بالدخول إلى مصر.

اعتقد السادات أن الأبنودي سيكون صوته، فأعلن رغبته في تعيينه "وزيراً للثقافة الشعبية"، لكن اتفاقية "كامب دايفيد" ألهمت الشاعر قصيدته الشهيرة "المشروع والممنوع"، وهي أقسى نقد وجه إلى نظام السادات، وبسبب هذا الديوان جرى التحقيق مع الأبنودي أمام المدعي العام الاشتراكي بموجب قانون سمي "حماية القيم من العيب".

توالي النجاح
وكان ديوان "الأرض والعيال" 1964 أول ما نشر للشاعر الذي أصدر فيما بعد دواوين منها "الزحمة" و"جوابات جراحي القط" و"بعد التحية والسلام" و"وجوه على الشط" و"الموت على الأسفلت" إضافة إلى "أيامي الحلوة" الذي نشره في حلقات أسبوعية بجريدة الأهرام، ويضم قصصاً وأحداثاً ومواقف من سيرته الذاتية.

حققت "سيرة بني هلال" التي جمع نصوصها المصرية والسودانية والتونسية على مدى 25 عاماً شهرة واسعة.

والشاعر الذي نال في الثمانينيات ليسانس الآداب من قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة، كتب أكثر من 700 أغنية لمطربين عرب منهم وردة الجزائرية وماجدة الرومي وصباح، ومن المصريين عبد الحليم حافظ وشادية ونجاة ومحمد رشدي ومحمد منير.

ومن هذه الأغاني "عدى النهار" و"أحضان الحبايب" و"تحت الشجر يا وهيبة" و"عيون القلب" و"طبعا أحباب" و"آه يا اسمراني اللون".

كما كتب حوار وأغاني فيلم "شيء من الخوف" لحسين كمال، وشارك في كتابة سيناريو وحوار فيلم "الطوق والإسورة" الذي أخرجه خيري بشارة عن رواية يحيى الطاهر عبد الله.

وكرم الأبنودي في عدد من الدول العربية ونال جائزة الدولة التقديرية في الآداب من مصر ،2000 وكان أول شاعر عامية يفوز بها، كما نال عام 2010 جائزة مبارك "النيل الآن" في الآداب وهي أرفع جائزة في البلاد.

تزوج في أول حياته من مخرجة الأفلام التسجيلية عطيات الأبنودي، والتي لم تتخل عن لقبه بعد انفصالهما، ثم تزوج من الإعلامية نهال كمال حتى نهاية حياته، وأنجب منها ابنتيه آية ونور.

ولكن القاهرة التي منحت الأبنودي شهرة عريضة حرمته أن يواصل الإقامة بها إذ تعرض لأزمات صحية في السنوات الأخيرة، ونصحه الأطباء بالابتعاد عن هواء العاصمة الذي لم يعد ملائماً لرئتيه العليلتين، فأقام في منزله الريفي القريب من مدينة الإسماعيلية.

كما أن لكل شيء جميل نهاية، لعل أدق وصف للأبنودي ما جاء على لسان الكاتب محمد توفيق بأنه "مزيج بين الصراحة الشديدة والغموض الجميل، بين الفن والفلسفة، بين غاية التعقيد وقمة البساطة، بين مكر الفلاح وشهامة الصعيدي، بين ثقافة المفكرين وطيبة البسطاء، هو السهل الممتنع، الذي ظن البعض، وبعض الظن إثم، أن تقليده سهل وتكراره ممكن".