حار كثير من العرب في وقوف كبار المثقفين في الغرب، ضد روجيه غارودي، بعد نشر كتابه عن المحرقة اليهودية في ثمانينيات القرن الماضي، واكتسب الأمر دلالات درامية، ألهبت المشاعر، واستنفرت التحيّزات على اختلاف أنواعها، مع محاكمة غارودي في فرنسا بتهمة العداء للسامية. وكان بين منتقدي غارودي شخص مثل إدوارد سعيد، يصعب اتهامه، في كل الأحوال، بالخضوع لمنطق، وتحيّزات، الثقافة الغربية السائدة، أو محاباة إسرائيل.

ومنشأ الحيرة، في الحالة المذكورة، عدم الإطلال بصورة كافية، على حقيقة ما يثيره شبح النازية من خوف وتهديد ونفور في المخيال الثقافي الغربي. ولا ضرورة، هنا، للاستفاضة في عرض التاريخ الكارثي للتطرف القومي والديني في التجربة التاريخية للغرب الحديث، بل يكفي القول إن لحرية التعبير، هناك، ضوابط قانونية وأخلاقية مستمدة من تجربة تاريخية خضّبها الدم.

في يوم ما، نرجو ألا يطول انتظاره، سيصل العرب إلى ضوابط وقناعات كهذه. وربما ليس من السابق لأوانه القول إن الموقف من داعش، والتدعيش، والدعشنة (أي مختلف أطياف التطرّف الديني والقومي، بصرف النظر عن أقنعته السياسية) سيكون شبيها بالموقف من الفاشية، والنازية، ومختلف التجليات العنصرية الدينية والقومية، في الغرب، سواء على صعيد الضميرين الفردي والجمعي، أو القوانين الكفيلة بحماية الأفراد والجماعات من أشباح التطرّف.

فلا يملك أحد، ولا يحق لأحد، ادعاء الحياد في الحرب التي يشنها الدواعش، على البشر والحجر، على نموذج الدولة الحديثة، والمجتمع المدني، والثقافة الوطنية والإنسانية، والحريات الفردية والعامة، وحتى على أبسط القيم الإنسانية المتداولة والمُعترف بها في أربعة أركان الأرض، سواء فعلوا ذلك باسم خلافة وهمية ومتوّهمة، أو بدعوى الدفاع عن "الأمة" ضد أعداء في الداخل والخارج.

وفي سياق كهذا، فقط، تتجلى إشكالية عبارة من نوع: "لقد حرصت إثناء تأليفي هذا الكتاب أن أعتمد الحياد والحقائق والموضوعية العلمية، وأن ابتعد عن النغمة السائدة حالياً أي الهجوم أو الدفاع تجاه هذا الموضوع الشائك، واخترت "خط الوسط"، الذي لا أحبذه في حياتي العامة، حتى أقدّم للقارئ صورة أقرب إلى الحقيقة".

وردت هذه العبارة في تقديم السيد عبد الباري عطوان "لكتاب" جديد بعنوان "الدولة الإسلامية: الجذور، التوحش، المستقبل" الصادر هذا العام (2015). السيد عطوان وجه مألوف على الفضائيات، يلفظ اسم بن لادن بكثير من المهابة والتوقير، وقد عمل رئيساً لتحرير جريدة لندنية لسنوات طويلة، ويعمل الآن رئيساً لتحرير جريدة رقمية على الإنترنت.

ومن حسن الحظ أن "الكتاب" صدر في الفترة نفسها التي شهدت صدور كتاب: "الإرهابيون في العراق: استراتيجية وتكتيكات التمرّد العراقي 2003-2014 من الداخل" (2015) لمالكولم دبليو نانس، الخبير (فعلاً) في الشأن العراقي، وفي المقارنة يتضح أن حياد وحقائق وموضوعية السيد عطوان العلمية تدخل، بعيداً عن الموضوع نفسه، في باب الثناء على الذات.

وهذا، في الواقع، أهون الشرور، فالمشكلة هي "خط الوسط"، و"الابتعاد عن الهجوم أو الدفاع" في الموقف من الدواعش (يصر على تسميتهم بالدولة الإسلامية)، باسم الموضوعية العلمية، في "كتاب" يحفل بمسرد لأسماء الأشخاص، والأماكن، (وهي من صنع الناشر على الأرجح) ويفتقر إلى مراجع حتى ثانوية، (أي من الصحف ووكالات الأنباء)، أما المراجع الأساسية (الأصلية) فغائبة، وينوب عنها، وفي حالات قليلة، أن فلاناً قال لي كذا، وفي حالات كثيرة انطباعات غير موثقة، وهي أشياء يصعب الاعتماد عليها كدليل على الموضوعية، ناهيك عن كونها عبارات إنشائية عامة.

يمكن التدليل بشواهد كثيرة، مستمدة من عبارات صريحة، وتلميحات، وإيحاءات، وردت في "الكتاب" أن "خط الوسط"، والاستنكاف عن الدفاع أو الهجوم (باسم موضوعية غائبة) مجرد لعبة بلاغية تستند إلى حقيقة يعرفها كل العاملين في حقول الداعية: كلما تظاهرنا بالحياد والموضوعية نصبح مقنعين أكثر.

وبهذا المعنى تتفاقم إشكالية "خط الوسط"، فالقبول، أخلاقياً وسياسياً، بوجود خط كهذا في الموقف من الدواعش، واختزال ما يثيرونه من خوف ونفور وتهديد في الكلام عن نغمة سائدة، يُمهّد لتطبيع وجود البربرية، وتحويلها إلى مجرد "رأي آخر"، واجتهاد في ما اختلف عليه الناس، يحتمل الصواب والخطأ، وهذا ما حصد أرواح ملايين البشر في التجربة التاريخية للغرب مع النازية، وما يهدد، الآن، بتدمير العالم العربي.
وبقدر ما يتعلّق الأمر، على الأقل، بالمعلّقين على الشأن العام، والعاملين في المنابر الإعلامية، وفي الحقل الثقافي، والعلوم الإنسانية، لا وجود لخط في الوسط، فإما أن تكون مع النازية أو ضدها، وإما أن تكون مع الدواعش أو ضدهم.