حقاً نعاني من معاول هدم فكرية أساسها أقرب إلى الثقافة منها إلى الدين
استطاعت دولة الإمارات العربية المتحدة أن تكون في طليعة البلدان المتسارعة النمو في الميادين كلّها، لأنها أدركت أن النهضة الحقيقية في حياة الأمم لا تبدأ إلا بثورة معرفية وثقافية، لهذا أطلقت الاستراتيجية الوطنية للقراءة (2016-2026) واستكمالاً للزخم القرائي والمعرفي وتعزيزاً لَهُ تم تحديد شهر وطني للقراءة وهو الشهر الحالي من كل سنة، وترسيخ استدامة القراءة كظاهرة وطنية، بغية النهوض بثورة ثقافية تتوازى مع عجلة التقدم التي تشهدها الدولة في مناشط الحياة كلّها.

للإرهاب ثقافة جاهزة، لانحتاج الى شيوخ أو نخب مثقفة لتغيير الواقع المتردي بل قارئ نهم مستقل و متطلع يعرف كيف يميز بين الخبيث والطيب، لهذا السبب حينما أدرج المتخصصون والباحثون "الثقافة" داخل النّظريات الأمنية كان يراد من الشعوب الاستثمار في العلم والمعرفة والثقافة، بصفتها أساس نهضة المجتمع وتطوُّره، ولكي يصبح شغف المواطن بالقراءة هاجسًا أصيلًا ، وتعميق الوعي لتقدير ثقافات الشعوب، لاسيما أحد إفرازات ثقافة الكراهية هو التعصب البغيض ولمعالجته وكان لابد من تفكيكه وإعلان القطيعة المعرفية من الينابيع المسمومة والروافد التي تغذي تلك الثقافة، بالإطلاع الواسع نستطيع خلق فكر حر طليق لإنسان متسامح ومتعايش.

ولقد استوعبت دولة الإمارات العربية المتحدة الدرس من المحن والأزمات التي تعاني منها الأمة العربية ، فكانت الخطوة الأولى في تحقيق الأمن الثقافي ليس الوطني فقط بل الإقليمي أيضاً، فى تطويع الغايات الكبرى من خلال تعزيز رافد القراءة ، وتحقيق الأهداف العظيمة من خلال توفير مظلة من الأمن الثقافي للشعوب العربية، وإنتاج فعل معرفي وثقافي قادر على مواجهة التحديات الراهنة، ولمواجهة الهيمنة الثقافية المطلقة، والتبعية الفكرية التامة، لكى تغدو ثقافتنا مصدراً لتحصين الشباب، بالإضافة إلى استرداد معالم الهوية العربية الإسلامية التي تم اختطافها على حين غرة. وسعت قوى الفساد والبغي إلى تشويه الثقافة الفكرية والعقدية وتزييفها، وتغييب العقل المسلم، مما أدى إلى قابلية التوحش والعنف التي هي ناجمة عن انقطاعه عن الثقافة الحرة والمستقلة عموماً. لهذا أدركت الإمارات أنّ "قانون القراءة" سيكون جسر عبور لتحقيق الأمن الوطني والثقافي، وخلق قيادة جديدة للبشرية ترد له روحه، ومحاولة ناجعة لتوفير الثقافة الصالحة والأمنة للوطن والمواطن.

الإمارات الدولة الوحيدة التي يعتمد اقتصادها الوطني على المعرفة والابتكار والإبداع والثقافة، ولدعم معايير التنمية والنمو الحاصل في الدّولة، هناك حاجة إلى تلك النوعية من القراءة التي تستغرق رحلة العمر كله ولا تتوقف. القراءة الحقيقية تعني استخراج واستكشاف أفضل ما لدينا من مميزات، لخلق روح محفّزة ومتطلعة مليئة بالطاقة والإيجابية، وأن الأوطان تبنى بالفكر المتحضر وترتقي بالمثقف الواعي، والتاريخ الحافل بالإنجازات.

كان من الضروري محاولة القضاء على التطرف والعنف عبر أطروحات بديلة تواجه الإرهاب، فالتحديات جديدة ولا بد أن يكون هناك أسلوب تفكير وخطاب جديد، والبديل هو الاستثمار في الثقافة والمعرفة التي نهضت بها الحضارة الإسلامية في فترات ازدهارها، بل كانت على علاقات وثيقة بالثقافات الأخرى ومسايرة لها كاليونانية والهندية والصينية، وحينما انفصلت الثقافة عن الدين أصبحت مجتمعاتنا بيئة حاضنة للإرهاب.

هناك تفاعل وتبادل بين الثقافة والأمن القومي، تظهر في عدة سياقات من خلال ملامح مؤذية لصورة "الإرهاب الدموي" الحاصل قد تصل أحياناً إلى حد التطهير العرقي أو الديني أو الطائفي، وما ترتب على ذلك من عواقب أمنية وخيمة، لأن طريقة تعاطينا مع الدين تفتقر إلى الثقافة وسعة الأفق والتبحر في المعرفة، مثل الصراع الطائفي والمذهبي الذي اشتعل استنادًا إلى التاريخ، وفوضى التكفير والقتل عمّت استشهادًا بأقوال في كتب التراث الأحادية الفقهية ،والانتقائية في التعامل مع أوامر الدين ونواهيه.. إلخ

لأننا حقاً نعاني من معاول هدم فكرية أساسها أقرب إلى الثقافة منها إلى الدين، أوامر الشريعة من الله وتطبيقها يتم حسب تعاطينا مع الدين، وطريقة فهمنا للنصوص أيضاً تحمل مدلول "ثقافة" وتتكئ على إتساع الأفق.

حكومتنا تريد مواطنًا بمرتبة قارئ ملهم حصيف ليكون مؤهّلًا لدحض الأفكار الباطلة وإظهار فسادها، ورؤية الواقع على حقيقته، والتحليل الرصين ،الذي يبين مدى قدرته على تفسير الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحماية نفسه ومجتمعه من كل التيارات المعادية، ليصبح مستعداً للمرحلة المقبلة لتحقيق أهداف كبرى وتطلعات جديدة من التنمية في وطنه، فالأمن الثقافي -بالقراءة النوعية - هو الحل الوحيد نحو أمن وطني قومي، وبناء ثقافة المواطنة الصالحة المتعايشة والمنفتحة.