نحن مضطرّون، أكثر من أيّ وقت مضى، للتكيّف مع مستجدّات لم تكن مطروحة من قبل، ومع عالم يفاجئنا كلّ يوم بما لم نتوقّعه ولا تخيّلناه. وهذا لا يعني بحال من الأحوال الرضوخ لما هو سيئ أو غير عادل في هذا الجديد
كأنّه بات علينا أن نعتاد على عالم جديد هو بالتأكيد ليس عالم الحرب الباردة ما بين أواسط الأربعينات وأوائل التسعينات. لكنّه أيضاً ليس عالم ربع القرن الذي تلى انتهاء الحرب الباردة.

وقد يصحّ القول إنّ منطقتنا العربيّة هي أكثر مناطق العالم استعراضاً لهذا التغيّر الهائل. يكفي أن نذكّر بتنظيم داعش وصعوده وسيطرته على مساحات شاسعة من سوريّا والعراق، ثمّ دمجها تحت سلطته على نحو عابر للدول والحدود. أو أن نذكّر بالتصعيد العنفيّ غير المسبوق منذ عهود مديدة الذي شهده بلد كسوريّا على يد بشّار الأسد ونظامه ضدّ أغلبيّة السوريّين. أو بتفجّر الحروب الأهليّة والنزاعات الإقليميّة على رقعة جغرافيّة عريضة جدّاً. أو بموجات اللجوء السكّانيّ الكثيف وهي تنطلق من الجنوب إلى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب. أو أخيراً، بصعود المسألة الكرديّة، لا سيّما في العراق وسوريّا.

مع هذا، فإنّ منطقتنا لا تختصر التغيّر الضخم ولا تحتكره. ذاك أنّ العنف، على أنواعه، بات يضرب مجتمعات متقدّمة ومستقرّة، وكانت آخر الشهادات على ذلك مذبحة لاس فيغاس في الولايات المتّحدة، حيث قضى العشرات من المدنيّين الأبرياء وجُرح المئات. أمّا الصعود القوميّ – الشعبويّ الذي حقّق انتصارات فعليّة في عدد من البلدان الغربيّة، وصدّع معايير العمل السياسيّ وقواه في بلدان أخرى، أو تصاعد المطالب الانفصاليّة/ الاستقلاليّة وآخرها ما شهدناه في استفتاء كاتالونيا حول الانفصال/ الاستقلال عن إسبانيا والعنف الذي استجرّه...، فهذا كلّه هو ممّا كان مستبعداً توقّعه أو افتراضه في الحقب السابقة، فيما الشبَه مع الماضي، حين يحصل، لا يكتم اختلافات كبرى في الطرق والوسائل.

وإذا كانت العناصر المتحكّمة بالزمن الذي نعيش لا تزال عرضة للتفكير والتحليل، كما لا يزال بعضها موضع خلاف في التقدير، فما هو مؤكّد أنّه بات في وسعنا تعريف هذا الزمن سلباً، أي بما ليس فيه، أو بافتقاره إلى العوامل التي سادت حقبة الحرب الباردة والحقبة التي تلتها مباشرة.

- فعلى عكس عهد الحرب الباردة، لم تعد هناك قوّتان عظميان تضبطان إيقاع العالم نزاعاً واتّفاقاً، وتُديمان من ثمّ خرائط الدول وتوازناتها، وبعملهما هذا ترسمان الخطّ الفاصل بين المسموح والممنوع، بين ما يمكن احتواؤه وما يفيض عن الاحتواء ممّا ينبغي التخلّص منه.

- وعلى عكس الحقبة التي تلت مباشرة نهاية الحرب الباردة، تحوّلت روسيا من دولة ضعيفة ومفكّكة رمزت إليها قيادة بوريس يلتسين المتداعية إلى دولة قويّة ومؤثّرة وتدخّليّة في ظلّ فلاديمير بوتين. وفيما مضت الصين تطوّر قدراتها الاقتصاديّة، اتّجهت الولايات المتحدة مع باراك أوباما، ثمّ في ظلّ دونالد ترامب، إلى الانكفاء عن التدخّل في العالم وصراعاته. وهذا بينما شرعت الشكوك المحيطة بالاتّحاد الأوروبيّ تتلاحق وتتكاثر، طارحة عدداً من علامات الاستفهام (أهمّها حتّى اليوم بريكسيت البريطانيّ) على مستقبل المشروع الأوروبيّ برمّته.

وفي الموازاة، حصلت تغيّرات اقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة لا تتّسع لها هذه العجالة، إلاّ أنّها، هي الأخرى، شديدة الوطأة والأثر على سكّان المعمورة قاطبة.

وقصارى القول إنّنا مضطرّون، أكثر من أيّ وقت مضى، للتكيّف مع مستجدّات لم تكن مطروحة من قبل، ومع عالم يفاجئنا كلّ يوم بما لم نتوقّعه ولا تخيّلناه. وهذا لا يعني بحال من الأحوال الرضوخ لما هو سيئ أو غير عادل في هذا الجديد. إنّه، في المقابل، يعني عدم الاستكانة لقديمنا وعدم اللجوء إلى تحليل العالم وجديده على ضوء ذاك القديم المألوف.