كما في كل شيء آخر، انقسمت آراء المعلّقين العرب على صفحات التواصل الاجتماعي، وفي وسائل الإعلام، بشأن المحاولة القطرية الفاشلة للفوز برئاسة اليونسكو. واندرج الكثير من المرافعات التي استُخدمت، في هذا الشأن، في باب الحق الذي يُراد به باطل. فالبعض استنكر تصويت مصر لصالح المرشحة الفرنسية، بذريعة أن التضامن العربي يستدعي اصطفاف العرب في جبهة موّحدة في المحافل الدولية.

كان الحري بقطر أن تدعم مصر، لا أن تنافسها. لذا، ثمة ما يبرر النظر إلى الموقف القطري بوصفه معادياً لفكرة التضامن
نظرياً، اصطفاف العرب في جبهة موحّدة صحيح، ولكن الشيطان في التفاصيل، كما يُقال. فالتصويت لمرشح ما يصلح طريقاً في اتجاهين، لا في اتجاه واحد، بمعنى أن ثمة مؤهلات تاريخية، وثقافية، وسياسية، تُرجّح كفة مصر، وتستدعي تمكينها من الفوز برئاسة اليونسكو. وبهذا المعنى، كان الحري بقطر أن تدعم مصر، لا أن تنافسها. لذا، ثمة ما يبرر النظر إلى الموقف القطري بوصفه معادياً لفكرة التضامن.

وحتى إذا وضعنا المؤهلات التاريخية، والثقافية، والسياسية، التي من شأنها ترجيح الكفة المصرية مقابل قطر، يمكن التفكير في سببين إضافيين يبرران النظر إلى المسعى القطري بطريقة سلبية تماماً. فالقاصي والداني يعرف أن قطر تحاول تعويض افتقارها لمؤهلات تاريخية، وثقافية، وسياسية، بما لديها من فائض المال لا غير، سواء بالرشوة، أو الوعد بالتمويل. وغالباً ما يتضافر الاثنان.

وبالاستناد إلى ما جرى في الاتحاد الدولي لكرة القدم، قبل سنوات، حين فازت قطر بحق استضافة مباريات كأس العالم، فإن فوزها برئاسة اليونسكو كان من شأنه إضافة ظلال سلبية جديدة على معنى ودلالة الحضور العربي في مؤسسات دولية كثيرة، بوصفه عامل فساد وإفساد.

والواقع أن الظلال التي أحاطت بفوزها في تصويت الفيفا لم تنقشع بعد. وقد صدر أكثر من كتاب موثّق في هذا الخصوص، وفيه ما يدل على أن الفوز باستضافة المونديال تحقق عن طريق الرشوة وشراء الذمم. وهذا ما يتجلى في كتاب هايدي بليك وجوناثان كالفيرت المعنون: "اللعبة البشعة: فساد الفيفا، ومؤامرة قطر لشراء كأس العالم".

نشر الكتاب قبل عام، وصدر في طبعة ثانية قبل أشهر قليلة، مع تزايد الكلام عن احتمال تراجع الفيفا عن قرارها، وسحب تنظيم واستضافة المونديال من الدوحة. وهذه مسألة لم تُحسم بعد. ولمَنْ يريد المزيد، في هذا الشأن، فإن كبريات الصحف الأمريكية والبريطانية، تفيض بكم هائل من التحقيقات والتعليقات في هذا الموضوع.

وإذا انتهينا من شبهة الرشوة وشراء الذمم، يمكن توجيه الأنظار إلى أمر لا يقل عنه إشكالية وخطورة بالمعنى الأخلاقي والسياسي. والمقصود، هنا، اتهام قطر بدعم وتمويل الإرهاب من جانب دول عربية وأجنبية، وحتى على لسان الرئيس الأمريكي نفسه، ناهيك عن الأبحاث، والمذكرات، والمؤتمرات، والكتب، والتحقيقات، التي عالجت، ولا تزال، أمراً كهذا.

أخيراً، ثمة ما لا يستحق غض النظر، ولا يدخل في باب الحق الذي يُراد به باطل، بل الباطل الذي لا ينتهك محاذير أخلاقية كثيرة وحسب، بل ويُسهم، أيضاً، في تشويه السياسة والذاكرة معاً. المقصود، هنا، محاولة النيل من المرشحة الفرنسية لكونها يهودية. وهذا غير مقبول، بالمعنى الأخلاقي والسياسي. فاليهود ليسوا أعداء للعرب والمسلمين، حتى وإن كانت لدى هؤلاء مشكلة سياسية مع دولة اسمها إسرائيل، تزعم تمثيل اليهود واليهودية.

وبالتداعي الحر، اقترنت يهودية المرشحة الفرنسية، في بعض التعليقات، بإسرائيل، على اعتبار أن انتخابات اليونسكو تشهد مؤامرة يهودية ـ إسرائيلية ـ غربية ـ على قطر، وأن مصر ودولاً عربية تشارك في المؤامرة. وإذا وضعنا جانباً حقيقة ما يسم هذا المنطق من مجافاة للواقع وغربة عنه، فمن المثير التذكير بحقائق من نوع أن قطر كانت سبّاقة، منذ عقود، في إنشاء علاقات مع الإسرائيليين، ولم تأبه للتضامن العربي، ولا لقرارات المقاطعة العربية.

على خلفية كهذه، في تحويل قطر إلى "ضحية" لمؤامرة في انتخابات رئاسة اليونسكو ما يمثل تشويهاً للسياسة، واعتداء على الذاكرة. وفي الحالتين، كما هو الشأن في حالات كثيرة منذ عقود أصبحت طويلة الآن: الحقيقة في مكان آخر.