مسرحيّ كروجيه عسّاف لا يكفيه المسرح. إنّه لا يتوقّف عن القول إنّ المسرح بالنسبة له أداة، أداة فكر وأداة سياسة بوجه خاصّ، بل بوجه أوّل
بعد أن لمّح روجيه عسّاف، المتبّقي من قلّة نادرة من معلمي المسرح، إلى أنّه سيترك المسرح، لعب وحده وببراعة مذهلة دور الملك لير في المسرح الشيكسبيري. اليوم يستخلص من ثلاث تراجيديات من المسرح الإغريقي ليوربيديس "ايفيجيينيا في أوليس" و"الطرواديّات" ولإسخيلوس"آغا ممنون". ثلاث تراجيديّات شملت حرب طروادة، ماقبلها وما بعدها، بحيث نقف عند الإلياذة بأركانها، نقف مليّاً عند أحداثها الكبرى ونتعدّاها. ثلاث مسرحيّات في واحدة، عدا الأصل الإلياذي، على خشبة واحدة. أي أنّنا نجد أنفسنا ما قبل حرب طروادة كما نجد أنفسنا أمام عواقبها. إنّها التراجيديا الكبرى الّتي تحتاج أوّلاً إلى خشبة غير عاديّة لتّتسع لعشرين ممثلاً يجوبون المسرح بأعداد كثيرة أحياناً، وبسرعات بعضها خاطف. الأمر الّذي ينال، قليلاً أو كثيراً، من الجلال التراجيدي، كما ينال من المدى الملحمي، والحال أنّ روجيه عسّاف أدخل المسرحيات الثلاث بقدر من التجاور وبقدر من التقاطع حتّى بدا أنّ المسرحيّت الثلاث ومعها الأثر الإلياذي موجودة على الخشبة نفسها وأحياناً في الوقت ذاته، إذا أخذنا الوقت المسرحي بإنفصال عن الوقت العادي. لن نخرج من ملحمة روجيه إلا بتداخل مسرحيّات ثلاث. هناك إيفيجيني ومأساتها التي تمتّد إلى آخر المسرحيّة لكن بعد أن تتكرّر بتفاصيلها ومواقفها، ثمّ هناك الحرب الّتي تتظهر في الأفق كحرب طروادة لكن أمامها معركة ميلوس وتراجيديا الطرواديّات، ثمّ هناك عواقب حرب طروادة في مصرع اغاممنون على يد كلمنتستر ومصرع أبناء هكتور وباريس على قبر أخيل بيد إبنه. ليست مأساة واحدة وليست تراجيديا واحدة إنّها سلسلة من تراجيديّات تتحوّل معها المسرحيّة إلى فاجعة متصّلة، بل يمكن القول أنّها مناحة موصولة، الأمر الّذي يحفظ للمسرحيّة جانبها الطقسيّ, فالبكاء التطهيري يكاد يكون نحيباً فائضاً من الأفواه والأحشاء مغرقاً العمل كلّه.

عشرون ممثلاً، هذه بدون شك مغامرة في ظروف المسرح الحالي وفي أزمته الراهنة. لأسباب معظمها ماليّة يختصر المنتجون والمخرجون أعداد الممثلين ويقصرونهم على أقّل عدد، وقد يقتصر العدد على واحد فتشيع المونو دراما. لا بد أنّها جرأة من روجيه عسّاف أن يستنفر إلى مسرحيته ما يعادل عشرين ممثلاً، جرأة مكلفة بحق. هؤلاء العشرون لن يكونوا محترفين. إنهم بدون شك لمامة من معاهد التمثيل ومن الهواة. روجيه استقدمهم و عكف على تدريبهم. لكنهم عشرون ويحتاجون إلى مدرسة تمثيل وبالتأكيد قام روجيه بعمل جريء للغاية. لقد نشرهم على مسرح لا يتسّع لهم بالكاد ولا تكفيه السرعة الّتي حكمت أدوارهم والّتي كان المسرح فيها يمتلئ وينضب بسرعة خاطفة أحياناً. لقد بدوا هواة وبدت الملحمة العسّافيّة لذلك عملاً تجريبياً لا بد له من مزيد من الإعداد والتحضير، وبالتأكيد فإن تجارب أخرى ستكون عاقبتها أفضل وأكثر نجاحاً.

مسرحيّ كروجيه عسّاف لا يكفيه المسرح. إنّه لا يتوقّف عن القول إنّ المسرح بالنسبة له أداة، أداة فكر وأداة سياسة بوجه خاصّ، بل بوجه أوّل. لذا لا ننتظر من روجيه أن تكون عودته إلى التراجيديّات الإغريقيّة بدون استثمار سياسي، بدرجةخاصّة لها. وبطبيعة الحال فإنّ النصّ الّذي أعدّه روجيه من التراجيديا الإغريقيّة، لا بد أن يلتبس بالراهن ويسقط عليه. هذا الراهن يعود إلى المسرح في مناخ الفاجعة، شاء روجيه أن يسقط الفاجعة التطهيريّة والطقسيّة على الواقع العربيّ الراهن. إنّ الجوّالكربلائي لم يكن عبثاً، فاجعة كربلاء لم تكن بعيدة والمناحة الكربلائيّة ملحوظة بالتأكيد. ليس هذا إلا تعريباً للتراجيديا الإغريقيّة. لكنّ الإسقاط الكربلائي هو أيضاً إسقاطات على الواقع الراهن. لكنّ إلإسقاطات تبدو أحياناً تحويلات للنصّ وتعقيبات عليه. هناك بالطبع فلسطين ومعركة موليس المستعارة لها. اغتصاب الأرض وطرد الشعب بإسم تاريخ أسطوري والدعم العالمي للمغتصب. لكن الوضع العربي الراهن وواقع الحروب الأهليّة الحاليّة ملحوظان أيضاً في نعي للحرب وخاصّة في صيغتها الوطنيّة. هذا بدون شكّ جديد على روجيه في رفض للحرب وإن في صيغتها الوطنيّة ولا بد أن للوضع الراهن أثره في هذا. لا بدّ أنّ هناك تغييراً في فكر روجيه ومواقفه.