على الرغم من إشارة أغلب المعلقين إلى عدم وجود ميل واضح لدى الإسرائيليين والإيرانيين للدخول في حرب مفتوحة، إلا أن تصعيداً غير محسوب على الجبهة اللبنانية، أو السورية، أو اندلاع مجابهات واسعة النطاق في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قد يخلق آليات تصعيد متلاحقة، في المنطقة كلها
لم يسبق أن اجتمعت مناسبات على قدر كبير من الرمزية، في مثل هذا الترتيب الزمني، في فترة قصيرة، وعلى مدار أيام متلاحقة، كما يحدث الآن. ففي مثل هذا اليوم من كل عام يحتفل الإسرائيليون بما يسمونه "يوم القدس" احتفاءً باحتلال وضم القسم الشرقي من المدينة. وغداً الإثنين، سيتم افتتاح مبنى السفارة الأمريكية في القدس، الذي يتزامن مع إحياء الذكرى السبعين لقيام الدولة الإسرائيلية، ويوم بعد غد الثلاثاء يُنظّم الفلسطينيون فعاليات ذكرى النكبة.

والواقع أن في كل مناسبة بمفردها ما يكفي لإشعال أكثر من حريق، وما أدراك إذا تلاحقت في مثل هذا الترتيب. ففي "يوم القدس" ينظّم الإسرائيليون مسيرات استفزازية وصاخبة في شوارع البلدة القديمة، وتقتحم أعداد كبيرة من المستوطنين الحرم الشريف، وينجم عن هذا كله اشتباكات لا يندر أن تكون دامية بين المواطنين الفلسطينيين وقوات الاحتلال.

للقدس، وفي القلب منها المُقدّسات الإسلامية والمسيحية، مكانة رمزية سياسية ودينية عالية. ولنذكر أن الانتفاضة الثانية اندلعت قبل ثمانية عشر عاماً بعد اقتحام باحات المسجد الأقصى من جانب إسرائيليين كان على رأسهم شارون في ذلك الوقت. لذلك، ثمة ما يبرر النظر بقدر كبير من القلق إلى تزامن إحياء الإسرائيليين للذكرى السبعين لإنشاء دولتهم مع تحوّل غير مسبوق، أي مع تدشين مبنى السفارة الأمريكية في القدس.

فمنذ قيام الدولة الإسرائيلية، وعلى الرغم من وجود البرلمان، ومقر الحكومة، ورئاسة الدولة، في القدس، أنشأت الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية معها سفارات في تل أبيب. وبعد احتلال العام 1967، وضم الشطر الشرقي من المدينة، وإعلانها عاصمة موحدة لم يعترف أحد في المجتمع الدولي بالعاصمة الإسرائيلية، ولا بجواز احتلال وضم الأرض بالقوة. وفي سياق كهذا يتجلى الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة، كتحول غير مسبوق، ينطوي على دلالات سياسية ورمزية بعيدة المدى، ويفتح على احتمالات يصعب التنبؤ بها. وقد كانت العلاقات الأمريكية الفلسطينية، التي وصلت الآن أسوأ حالاتها، ضحية أولى ومباشرة لهذا التحول.

وهذا كله يتمفصل، الآن، مع مسيرات "يوم العودة"، التي ستنطلق يوم الثلاثاء القادم، خاصةً على الشريط الحدودي مع قطاع غزة، وستتجلى في صدامات دامية هناك، وعلى الأرجح بين المواطنين الفلسطينيين وقوات الاحتلال في القدس ومناطق مختلفة في الضفة الغربية، أيضاً.

هذه المسيرات مصدر قلق خاص بالنسبة للإسرائيليين. فمنذ أواخر مارس (آذار) الماضي، ينظم الفلسطينيون في غزة وقفات احتجاجية ومظاهرات، تتخللها محاولات اقتحام فردية للشريط الحدودي، خاصة في أيام الجمعة.

وقد وجدت حماس، وهي القوة المسيطرة على القطاع منذ 2007، فيها فرصة للاستثمار بالمعنى السياسي والمعنوي.

ويخشى الإسرائيليون أن ينجح المتظاهرون يوم الثلاثاء القادم في اقتحام الشروط الحدودي بأعداد كبيرة، مع كل ما ينطوي عليه أمر كهذا من مس بهيبة الدولة الإسرائيلية، وخلق سابقة خطيرة قابلة للتكرار، إضافةً إلى قتل الكثير من المتظاهرين إلى حد يستدعي وضع الاحتلال، وسياساته، تحت ضوء قوي في المحافل الدولية، وهذا ما لا يريده الإسرائيليون في هذا الوقت بالذات.

بيد أن هذا كله، وعلى خطورته، لا يمكن أن يُقرأ إلا على خلفية تحوّلات إقليمية ودولية يتأثر بها، ويؤثر عليها. ويتمثل أبرز التحولات في انسحاب الأمريكيين من الاتفاق النووي مع إيران، وفي تصعيد غير مسبوق على الأراضي السورية، حيث بدأ الإسرائيليون في استهداف مواقع عسكرية للإيرانيين، كان آخرها غارات جوية يُقال إنها الأعنف منذ عقود، رداً على تمركز استراتيجي لقوّات إيرانية على الأراضي السورية، وعلى اختبارات بالنيران يجريها الإيرانيون هناك من وقت إلى آخر.

للانسحاب من الاتفاق النووي تعقيدات دولية كثيرة أبرزها الخلاف في وجهات النظر بين الأوروبيين والأمريكيين من ناحية، ومحاولة الروس والصينيين الصيد في الماء العكر من ناحية ثانية. ومع ذلك، وبقدر ما يتعلق الأمر بالعالم العربي، والشرق الأوسط، تبدو التعقيدات الإقليمية لتحوّل بهذا الحجم، أكثر إثارة للقلق، فقد تفتح الباب على احتمال حرب إسرائيلية إيرانية على الأراضي السورية واللبنانية.

ويظل الموقف الروسي الأكثر التباساً حتى الآن. فعلى الرغم من حمايتهم لنظام آل الأسد في سورية، إلا أن موقف الروس من الوجود الإيراني على الأراضي السورية، ومدى قابليتهم لغض النظر عن الغارات الإسرائيلية، لم يتضح بصورة كافية حتى الآن. كان نتانياهو أبرز ضيوف بوتين في احتفال الروس بذكرى انتصارهم في الحرب العالمية الثانية، ولكن علاقاته الاقتصادية والسياسية مع الإيرانيين، وكذلك صفقات السلاح، تتحسّن في الواقع.

وعلى الرغم من إشارة أغلب المعلقين إلى عدم وجود ميل واضح لدى الإسرائيليين والإيرانيين للدخول في حرب مفتوحة، إلا أن تصعيداً غير محسوب على الجبهة اللبنانية، أو السورية، أو اندلاع مجابهات واسعة النطاق في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قد يخلق آليات تصعيد متلاحقة، في المنطقة كلها، يصعب التحكّم بتحوّلاتها النهائية.

وبهذا المعنى، يبدو صيف هذا العام ساخناً على أكثر من جبهة، وتزداد حرارته على ضوء أكثر من احتمال، وليس من السابق لأوانه القول إن مُخرجاته النهائية، التي يصعب التنبؤ بها الآن، تبدو حاسمة وبعيدة المدى.