لم يكن مستحيلاً إنقاذ دور المنظمة وإيقاعها وصورتها أمام العالم، لو لم تصر حماس على وضع العربة أمام الحصان، فمنحت التهدئة مع إسرائيل أولوية على المصالحة
نجح المصريون في الوصول إلى تهدئة دون اتفاق موقع بين حركة حماس ومن معها من الفصائل وإسرائيل. ووفق السيناريو المعلن أو المسرّب، فإن حماس وضعت نفسها تحت اختبار أداء، فإذا نجحت فيه يرتفع منسوب التسهيلات الإسرائيلية، وإذا أخفقت ولو في تفصيل واحد، فما أقرب أن تعود الأمور إلى نقطة الصفر لتبدأ دورة جديدة من العنف المتبادل وغير المتكافئ والمكلف، ولتستأنف الوساطات لإحراز تهدئة متبادلة وفي كل الأحوال يتحكم الميدان في مستواها ومداها الزمني.

بالمقاييس المباشرة والبسيطة، كسبت حماس من التهدئة، إذ يجري التعامل معها إقليمياً ودولياً كطرف فعّال في المعادلات الفلسطينية الإسرائيلية. ومن خلال الحضور البارز لمبعوث الأمم المتحدة، أحرزت حماس نقطة دولية ثمينة. ويبدو من خلال أقوال الناطقين باسمها أنها تشعر بالابتهاج جراء تحييد السلطة الشرعية وإتمام فصول التهدئة جميعاً من وراء ظهرها، أي أنها تكرس استئثارها بالملف الغزي، وتجر العالم للتعامل معها كشرعية أمر واقع يستحيل تجاوزها، ولكن ومن خلال مراجعة لطريقة حماس في التعامل فإنها ستضع هذا الإنجاز في رصيدها حين يفتح ملف المصالحة في قادم الأيام، ولقد أكد المصريون أن العمل عليه سيستأنف على الفور وفق خطة متدرجة يرون أنها قابلة للتحقيق.

غير أن ما يعتبر مكسباً حققته حماس من خلال التهدئة، ينطوي من جهة أخرى على طعم شديد المرارة، وتراجع في غاية السلبية على المستوى الوطني العام، فلقد تشوه أهم إنجاز استراتيجي حققه الكفاح الوطني على مدى عقود، وهو وحدانية وصدقية التمثيل الفلسطيني، الذي احتكرته بصورة فاعلة وإيجابية منظمة التحرير، حين لم يكن باستطاعة أي طرف فلسطيني وضع خيط في إبرة دون موافقتها وتبنيها. لقد تدمرت هذه الوحدانية والصدقية بصورة خطيرة، والأمل أن يكون ذلك مؤقتاً.

لم يكن مستحيلاً إنقاذ دور المنظمة وإيقاعها وصورتها أمام العالم، لو لم تصر حماس على وضع العربة أمام الحصان، فمنحت التهدئة مع إسرائيل أولوية على المصالحة، فما الذي كان سيضر غزة المحاصرة والمعذبة، لو منحت حماس دوراً مباشراً لمنظمة التحرير في إنجاز التهدئة مع إسرائيل، فلو فعلت ذلك لسجلت لنفسها مأثرة إخراج غزة من دائرة الحصار الخانق، وفي الوقت ذاته تسجيل نقطة هامة توضع في رصيد منظمة التحرير في الوقت الذي تعاني فيه المنظمة ما تعانيه على كل الصعد.

أهل غزة، وهذا أمر إنساني مشروع، يشعرون بالارتياح لتطور منشود في حياتهم اليومية، فما يهمّ المواطن المحروم من أبسط الحقوق بدأ بالتحقق، ومطالب الغزيين قدر ما هي هامة فهي بسيطة ... بعض علاج، بعض مياه شفة نظيفة، بضع ساعات إضافية لوصول الكهرباء، بضعة أمتار تضاف إلى مساحة الصيد في البحر، بعض تسهيلات على المعابر، وعشرات "البعض" في كل شؤون الحياة، وقبل ذلك أن يخرج الشبان من بيوتهم يوم الجمعة أو في أي يوم آخر ولا يعودون أشلاء أو فاقدي طرف من أطرافهم.

هذه الامور البسيطة والبديهية بالنسبة لأي آدمي في أي مكان من العالم، بدت أموراً مستحيلة على مدى 11 سنة في غزة، وإذا تحقق ذلك وكلنا أمل ورجاء أن يتحقق، فإن أمراً مهماً ما زال بعيداً وغيابه يعذب روح الغزيين مثل باقي أبناء جلدتهم من الفلسطينيين في كل مكان هو بلوغ القيادات الجاثمة على صدر الحالة الفلسطينية قدراً من النضج تسمح بحماية الحقوق اليومية والوطنية على السواء عبر معادلة مقنعة ومنطقية تستعاد فيها الوحدة الوطنية التي هي الأرض الصلبة التي يقف عليها الكفاح الوطني من أجل الحرية والاستقلال، وتستعاد بها الشرعية الفلسطينية الواحدة التي توشك على التبدد أمام الانقسامات المستفحلة في الوطن والنظام السياسي لوطن صغير لا يحتمل نظامين منفصلين ومتصارعين وفوقهما احتلال يسد آفاق المستقبل على الجميع.
خلاصة القول لقد كسبت حماس في أمر التسهيلات إلا أن هذا المكسب يبدو بالمقاييس الأعمق شديد المرارة.