الفلسفة، بغض النظر عن عدد الكتب التي قرأتها، لا تُفهم إلا بالنقاش والمداولة التي تصقل العقول وتوضح الصور وتزيل الالتباس
أحياناً تكون علاقاتنا مع من لم نلتقِ بهم قط، أعمق بكثير مما كنا نتصوّر، لكن لا بد أن يتدخل الموت كوسيط لكي نشعر بعمق هذه العلاقة وأننا فقدنا إنساناً عزيزاً علينا. حدث هذا لكاتب هذه السطور سابقاً، عندما توفي الفنان العظيم حسين عبد الرضا، وها هو يتكرر مع وفاة البروفسور إمام عبد الفتاح إمام، أستاذ الفلسفة المصري، في الأسبوع الماضي. إلا أن الأمر يختلف عند مقارنة العلاقة بالمفكر مع العلاقة بالفنان، الأولى علاقة خطرة للغاية، لأنها قد تنتهي إلى المحبة العميقة أو إلى الكراهية المقيتة. إنها تلك العلاقة الخفية، علاقة الإفضاء والبوح بمكنونات النفس، علاقة الكاتب بالقارئ.

يخطئ من يتصور أن د. إمام عبد الفتاح كان مجرد مترجم، فهو بشهادة كثيرين، أفضل تلاميذ أستاذ الجيل د. زكي نجيب محمود. هذه التلمذة لها قصة، ففي مرحلة الدراسة، اهتم المرحوم د. إمام بفلسفة هيغل. لسبب خفي جذبته تلك الفلسفة التي أدار العالم الغربي ظهره لها بعد أن شن الفلاسفة الإنكليز (جورج مور وبرتراند راسل) ولودفيغ فتغنشتاين وحلقة فيينا، هجمة شرسة عليها لأنها فلسفة تقوم على الميتافيزيقا، والميتافيزيقا لم تعد مناسبة، أو هكذا شعر أولئك العلماء في مطلع القرن العشرين. ذكر د. إمام في مقالة له كيف أنه تعلم الألمانية وبدأ يدرس أعظم بحث فلسفي في القرن التاسع عشر، كتاب "ظاهريات الروح" لهيغل، وأن هذه الدراسة استمرت لمدة سنتين، دون أن يفهم أي شيء مما قرأه. كتاب "ظاهريات الروح" ليس بطلاسم سحرية، لكن الكتّاب الألمان تحديداً في تلك الحقبة كانوا يميلون إلى الغموض، بحيث لا يكون إنتاجهم صيداً سهلاً. هناك من فسر غموضهم بأن الكِتاب سهل القراءة يُنسى بعد شهر من قراءته، في حين يعود الناس إلى الكتاب الغامض بين فينة وأخرى. هذا التفسير فيه تسطيح كبير، فعودة الناس إلى هيغل سببها عمق أفكاره وخِصب فلسفته، وليس مجرد الغموض، ولا زال الناس يتأثرون به ويقتبسون من ناره، وهذا كتاب فرانسيس فوكوياما "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" يتخذ من فلسفة هيغل قاعدة ينطلق منها ولولا هيغل لما كان فوكوياما، وليس وحده في ذلك.

يصعب أن يتعلم الإنسان من كتاب، فما بالك بالفلسفة! الفلسفة، بغض النظر عن عدد الكتب التي قرأتها، لا تُفهم إلا بالنقاش والمداولة التي تصقل العقول وتوضح الصور وتزيل الالتباس. هنا لجأ د. إمام إلى أستاذه، أستاذ ذلك الجيل من المثقفين المصريين والعرب، د. زكي نجيب محمود ليساعده على فك تلك الطلاسم المتوهمة، ويبدو أنه لجأ إلى المكان الصحيح. فقد التقى الأستاذ والتلميذ لقاء مثمراً للغاية، رغم اختلاف مذاهبهما الفلسفية، فزكي نجيب كان داعية الوضعية المنطقية وفلسفة العلم في العالم العربي, وصاحب كتاب "خرافة الميتافيزيقا" أي أنه حتماً خصم لهيغل، بينما سار التلميذ وترقى وتطور ليكون المرجعية العلمية لكل الهيغيليين العرب. لكن زكي نجيب كان هو من شرح لإمام عبدالفتاح تلك الفلسفة الصعبة، قشرياً. في المقابل، رد د. إمام ذلك الجميل بالوفاء المطلق لأستاذه طوال حياته، وإهدائه بعض أعماله، وترجمته لرسالة الدكتوراه الخاصة بزكي نجيب واسمها "الجبر الذاتي"، أحد أهم البحوث العربية فيما يتعلق بقضية حرية الإرادة.

بعد هذا اللقاء المعرفي، زاد اهتمام د. إمام بفلسفة هيغل. ومع مرور الزمن أصبح أكبر شارح لها في العالم العربي بلا منازع، ولا أعتقد أن أحداً سيخالف في هذا. لا أحد أصدر مثل هذا العدد الكبير من التآليف والترجمات كما فعل د. إمام، ويأتي في مقدمتها كتاباه "المنهج الجدلي عند هيغل" و "تطور الجدل بعد هيغل" في ثلاثة مجلدات ضخمة.

هل هذه المقالة مجرد تأبين ميت؟ لا، ليست كذلك. فبالرغم من أننا في زمن نجوم السناب شات وزمن طغيان الشعبوي حيث الإمعان في تكريس التفاهة، وانزواء النخبوي في عالمه الخاص الذي بدأت مساحته في التقلص على حد تعبير"أمبيرتو إيكو"، إلا أننا سنقول لمثقفينا "نحن نحبكم ونتابع إنتاجكم ونقرأ لكم بشغف" فلا تنزعجوا من قلة الجماهير إن كان جمهوركم النخبة، وينبغي لك أيها المثقف أن تكتفي بمحبة "طائفتك" لك.