ليس هناك ما يشير إلى أن حرب غزة يمكن أن تنتهي قريباً، خصوصاً أن بنيامين نتانياهو يجد لنفسه مصلحة في استمرار هذه الحرب التي لم تعد مأزقاً إسرائيلياً وحمساوياً فحسب، بل صارت أيضاً مأزقاً أمريكياً. هل تصبح هذه الحرب استثماراً إيرانياً ناجحاً، بعدما تبيّن بوضوح أن "الجمهورية الإسلامية" استطاعت، أقلّه إلى يومنا هذا، أن تكون المستفيد الأول من حرب غزة على حساب العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن. تبيّن أن لدى إيران أدوات فعالة في البلدان الأربعة تغنيها عن الدخول المباشر في أي مواجهة مع إسرائيل. يؤكد ذلك تفادي "الجمهورية الإسلامية" الردّ الجدي على قتل إسرائيل، قبل نحو خمسة أسابيع، مجموعة من كبار ضباط فيلق القدس في الحرس الثوري  كانوا في القنصلية الإيرانية بدمشق.
نفّذت إيران هجوماً استعراضياً، رداً على تدمير قنصليتها في دمشق. ما لبثت إسرائيل أن ضربت أهدافاً عسكرية مهمة في أصفهان. لم يعرف الكثير عن الضربة الإسرائيلية وما إذا كانت ذات أهمية حقيقية. المهم أن إيران غضت النظر عن تلك الضربة ونتائجها وقررت العودة إلى سياستها التقليدية. تقوم هذه السياسة على استخدام الميليشيات المذهبية للحرس الثوري في لبنان وسوريا والعراق واليمن في "مساندة غزة"، على أن يتحمل اللبنانيون والسوريون والعراقيون واليمنيون تبعات هذه المساندة. الأكيد أن آخر ما يهم إيران ما يحل بلبنان وسوريا والعراق ومناطق سيطرتها في اليمن. المهم أن يكون أبناء البلدان الأربعة في خدمة المشروع التوسعي الإيراني من جهة وفي خدمة الدفاع عن النظام الإيراني وحمايته من السقوط من جهة أخرى.

قضت إسرائيل على غزة من دون القضاء نهائياً على حماس التي لا تزال تمتلك ورقة الأسرى الإسرائيليين. هذه ورقة لا قيمة لها سوى من زاوية واحدة هي تأمين السلامة الشخصية، في يوم من الأيام، لقياديي حماس مثل يحيى السنوار، ومحمد الضيف، وآخرين اتخذوا قرار شن هجوم "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
من بين مآسي حرب غزة، حجم التدمير الذي حل بالقطاع. تشير أرقام مصدرها الأمم المتحدة إلى الحاجة إلى سنوات طويلة لإزالة الركام الذي خلفته إسرائيل في غزة. تحدث أحد كبار موظفي الأمم المتحدة عن وجود 37 مليون طن من الركام في غزة. قال هذا الموظف: "نحتاج إلى أربعة عشر عاماً لإزالة الركام".
يظل أخطر ما في الأمر أن إسرائيل غير مهتمة بأي تسوية سياسية. يشير غياب الاهتمام الإسرائيلي بتسوية سياسية إلى هامش المناورة الضيق لدى إدارة جو بايدن التي تعرف، قبل غيرها، أن كل كلام عن تحسن العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل يظل كلاماً لا معنى له في غياب ثمن سياسي تدفعه الدولة العبرية. لمثل هذا الثمن السياسي معنى واحد هو الانتقال من حرب غزة إلى خيار الدولتين، مع كل ما يتضمنه مثل هذا الخيار من ضمانات لأمن إسرائيل حتى لا يتكرر هجوم "طوفان الأقصى" يوماً.
لا تستطيع الولايات المتحدة الإقدام على أي خطوة في اتجاه عقد اتفاقات دفاعية مع السعودية ودول الخليج من دون حصول تقارب سعودي إسرائيلي، مثل هذا التقارب يبدو مستحيلاً ما دام بنيامين نتانياهو على رأس الحكومة الإسرائيلية وما دام إنقاذ مستقبله السياسي يعتمد على بقاء الحكومة الحالية التي تضم وزراء من طينة إيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش، وغيرهما. هؤلاء الوزراء يعيشون في عالم آخر لا علاقة له بالعالم الحقيقي، أي بوجود شعب فلسطيني على أرض فلسطين. شعب يمتلك حقوقه المشروعة التي لن تتبخر بغض النظر عمّا حل بغزة.

في كل يوم يمر تتحول الأزمة التي تعيش في ظلها إسرائيل إلى أزمة أمريكية. صار المأزق الإسرائيلي مأزقاً أمريكياً يتفاعل في داخل الولايات المتحدة نفسها، حيث كلّ هذا الغليان في جامعات مرموقة بسبب ما يتعرض له الشعب الفلسطيني في غزة. لا سابق لهذا الغليان في الجامعات الأميركية إلا في سبعينات القرن الماضي حين كان الطلاب يعترضون على استمرار حرب فيتنام التي انتهت في آخر  أبريل (نيسان) 1975.
لا مفرّ من كلام واضح في شأن المرحلة التي دخلتها حرب غزة، وذلك بعدما تبين أن رئيس الحكومة الإسرائيلية يراهن على استمرار الحرب، فيما لا وجود لقدرة أمريكية على وضع حد للوحشية الإسرائيلية. يحصل ذلك فيما لا مصلحة لدى حماس التي طرحت شروطاً مستحيلة تؤمن عودة "الإمارة الإسلامية"، التي أقامتها في غزة منذ منتصف العام 2007، وكأن شيئاً لم يكن. ترفض حماس أخذ علم بما حلّ بغزّة وأهلها. لا تدرك أنّ ليس في هذا العالم من هو مستعد للعودة إلى وضع كان قائما قبل يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. لا يستطيع العالم العودة إلى ما قبل ذلك اليوم لسبب في غاية البساطة يتمثّل في أن غزة التي عرفناها لم تعد موجودة!
في غياب الدور الأمريكي الفاعل، وهو دور من النوع الذي مارسته إدارة جورج بوش الأب في مرحلة ما قبل إنهاء الاحتلال العراقي للكويت مطلع العام 1991، عندما ضبطت أمريكا إسرائيل، ووضعتها في حجمها الحقيقي، لم يعد من مجال لأي تسويات سياسية. لا مكان في المدى المنظور للغة العقل التي تعني وقفاً لإطلاق النار في غزة. لا مكان سوى للرؤوس الحامية مثل رأس "بيبي" ورأس حماس التي تعتقد أنها انتصرت في حرب غزة. أما الإدارة الأمريكية فهي تكتفي بلعب دور المتفرج من منطلق أن هم جو بايدن محصور بهم العودة إلى البيت الأبيض في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. لا هو قادر على منع المأزق الإسرائيلي من التحول إلى مأزق أمريكي ولا هو قادر على طمأنة الدول الخليجية، في مقدمها السعودية، ولا على مواجهة المشروع التوسعي الإيراني بالطريقة التي يفترض أن يُواجَهه بها.