لم تدم طويلاً فرحة الغزيين بإعلان حركة "حماس" موافقتها على المقترح المصري القطري للهدنة، إذ انقلب الاستبشار العابر بخلاص من محنة سبعة أشهر إلى جولة جديدة من التصعيد تنذر بما لا تحمد عقباه.

ورغم أن الهدنة لا تزال مطلباً، فإن التطورات التي أحبطت فرص تحققها بعد موافقة "حماس" باعثة على القلق، إذ إن الثقة بما بعدها تعرضت لهزة كبرى بما أقدمت عليه إسرائيل في رفح.
تحرك القوات الإسرائيلية في رفح هو إجهاض لمساعي التهدئة بأكثر من صورة، والرسائل التي ينطوي عليها شديدة السلبية، لأنها خطوة تعيد المنطقة التي تهيأت لبعض الاستقرار، إلى مربع السيناريوهات المفتوحة على كل الاحتمالات، وأخطرها تفجّر الأوضاع على جبهات أخرى خارج قطاع غزة.

وعلى الجانب الإسرائيلي إدراك أنه حين يذهب بالأزمة إلى هذه المرحلة الخطِرة التي تهدد بفصل آخر من المأساة الإنسانية عنوانه رفح، بينما كانت التهدئة سانحة، فإنه يحبط جهود الوساطة، سواء بأطرافها المباشرة كمصر وقطر والولايات المتحدة، أو بالمساعي الأخرى التي تبذلها دول في المنطقة، ويفتح مجالاً لانعدام الثقة، سواء في مرحلة التفاوض من أجل هدنة، أو بعدها.
ربما تكون مصر الأكثر حرجاً في هذه المرحلة الخطِرة، ليس بوصفها وسيطاً فحسب، بل أيضاً لأنها على تماسّ حدودي مع رفح، وترى في الإجراءات الإسرائيلية فيها ذهاباً بالأوضاع إلى حافة الهاوية.
يضاف إلى ذلك أن الحكومة الإسرائيلية تصم آذانها عن كل التحذيرات المتكررة من الدول المعنية والمنظمات الدولية، ولا تسمع إلا لفريق فيها يجعل المنطقة كلها على فوهة بركان ثمناً لأهدافه السياسية، ويضيّع الوقت في جولات تفاوض متتالية.
إن إشعال النار في ورقة رفح، بحثاً عن انتصار، أو ضغطاً من الجانب الإسرائيلي على "حماس" في غرف التفاوض يقطع معظم سبل بلوغ نهاية للحرب في غزة، ولا مستفيد من ذلك على هذا الجانب أو ذاك، فتبدّد الثقة، وإحراج الوسطاء، وتفاقم معاناة أهل غزة، كلها أمور تباعد بين المنطقة والهدوء المنشود.
إن تصور إسرائيل أنها تضع بما يجري في رفح نهاية "حماس" هو غياب للحكمة، فالفلسطينيون هم من يدفعون الثمن موتاً أو تشتتاً فوق جغرافيا تشوّهت كل معالمها وتعزّ فيها سبل النجاة، بينما يتفاوض طرفا الحرب بنوايا غير خالصة.
وفرض السيطرة على معبر رفح لا يعني أن القطاع فقد صلته بالعالم، فغزة الآن أكبر جراحه، بل هي جرح قابل للاتساع حين تمعن إسرائيل في خنق منافذ المساعدات الغذائية والطبية والوقود، وهو أمر تحذر منه ومن تداعياته المنظمات الأممية، لأنه سيكون فوق الاحتمال الإنساني.
الحكمة لا تقتضي دفع الفلسطينيين في غزة، وكل المنتظرين لنهاية مأساتها، إلى اليأس والتسليم بأن المنطقة ستدفعها أنانية طرف أو استهانته بالعواقب إلى الاشتعال الذي لا يفيد أحداً.
إن فرحة الغزيّين العابرة التي وأدتها التطورات في رفح، تستأهل قراءة عاقلة تنتصر للحياة وحق الجميع فيها.