على الرغم من أصوات قليلة مُعارضة، احتفى المشهد السياسي الفرنسي على غير العادة بزيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ لباريس مؤخراً، بينما انتقد البعض الرئيس إيمانويل ماكرون لدعوته نظيره الصيني، ومُبالغة الإليزيه في الاستقبال عبر إضفاء لمسة شخصية ترحيبية إلى جبال "البيرينيه"، وهي منطقة جبلية ساحرة حيث يُمضي ماكرون إجازته.

وبينما كان الاقتصاد والتاريخ حاضرين بقوة بين البلدين بمناسبة الزيارة، إذ وبالنسبة لزعماء الصين فإنّ الفترة الذهبية في العلاقات مع فرنسا كانت خلال حُكم الجنرال ديغول، فإنّ الملفات السياسية كانت الحاضر الأبرز من وراء الستار، خاصة الاعتقاد أو الأمل المُتزايد بدور حاسم لبكين في إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية عبر استغلال علاقتها المميزة مع موسكو، وعلاقة شي جين بينغ الشخصية بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كما تمّ في الشق الدبلوماسي من الزيارة بحث امتناع بكين عن إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا، والتقارب بين الصين وروسيا، إضافة إلى الخلافات بشأن جزيرة تايوان.

وكذلك وعلى غرار فرنسا والاتحاد الأوروبي عموماً، فإنّ الصين تشعر بالقلق أيضاً بشأن العودة المُحتملة لدونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة في عام 2025 إثر انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. فالرئيس السابق (وربما القادم) الذي هدد بالانسحاب من حلف الناتو وترك أوروبا وحيدة في مواجهة القيصر الروسي، هو أيضاً من فرض قيوداً صارمة للغاية على نقل التكنولوجيا الأكثر تطوراً، بما في ذلك أشباه الموصلات، إلى الصين، مما وجّه ضربة قاسية للتكنولوجيا الصينية المُتقدّمة.

عداء الولايات المتحدة

ومع الاعتراف باستحالة تحقيق التوازن في العلاقات الفرنسية مع كلّ من الولايات المتحدة والصين، ورفض ماكرون للاختيار بين واشنطن وبكين وإصراره على علاقات متوازية معها، يرى مُراقبون ومحللون سياسيون فرنسيون أنّ بكين تُترجم علاقاتها الدولية بشكل بسيط وفقاً لمبدأ "مُعاداة أمريكا"، خاصة مع الخطر الأكبر الذي مثّله عليها دونالد ترامب المُرشّح الجمهوري القوي للعودة إلى البيت الأبيض من جديد.

ويرى الكاتب والمحلل السياسي فيليب جيلي، أنّه في مواجهة التهديدات الخارجية الهائلة التي يعكسها النفوذ الصيني سياسياً واقتصادياً، بدأت أوروبا في الاستيقاظ للتو. واللافت أنّ شي جين بينغ هو الذي اختار فرنسا للعودة إلى أوروبا بعد سنوات طويلة. واصفاً ذلك بأنّه أكثر من مُجرّد زيارة شرفية، ويجب أن يُنظر إليه على أنه تحدّ يتناسب مع الاضطرابات في الوقت الحاضر.

وقال جيلي إنّ "الرئيس الصيني صاحب النفوذ مدى الحياة، يُعلن عن صداقته علناً عبر رسالة في الصحافة الفرنسية"، لكنّه جاء قبل كلّ شيء للدفاع عن مصالح استراتيجية ذاتية هائلة، دون التفكير في التخلّي عن مسارها. فالعلاقات الصينية-الأمريكية، سواء الجيوسياسية أو التجارية، أصبحت متوترة على نحو متزايد، والارتباط مع روسيا يزداد قوة. ومع تباطؤ الاقتصاد الصيني بشكل خطير، فإنّ بكين تحتاج إلى استمرار السوق الأوروبية لجني ثمار العولمة.

التوسّط لدى موسكو والتخلّي عنها!

ومن جهته، تحدّث كبير محرري الشؤون الخارجية في صحيفة "لو فيغارو"، رينو جيرار، عمّا أسماه "فائدة الحوار مع الصين"، مُعتبراً أنّ ماكرون كان مُحقّاً في اعتقاده أنّ الحوار مع بكين مُفيد لفرنسا، وفي اعتقاده كذلك أنّ شي جين بينغ، "الذي لديه كل الفرص للبقاء على رأس السلطة في بكين لفترة طويلة"، هو الشخص الوحيد القادر على التفكير مع الرئيس الروسي لوضع حدّ للحرب في أوكرانيا.

وبالمُقابل، يتهم المُنتقدون للزيارة في فرنسا وأوروبا ماكرون بأنّه "ساذج" فيما يتعلق بـِ "الديكتاتورية الشيوعية". لكنّ الرئيس الفرنسي، حسب جيرار، يعرف جيداً تاريخ وطبيعة النظام الصيني الحالي، وهو يفهم أيضاً التحدّيات التي يفرضها الإغراق التجاري الصيني بالإضافة إلى توسّع بكين على صعيد النفوذ السياسي في الشرق الأوسط وأفريقيا.

وبدورهم، تحدّث كل من المحللين السياسيين هارولد تيبولت، وفيليب ريكارد، عن دعم الصين الحاسم لروسيا في الحرب في أوكرانيا، وهو ما جاء في قلب المناقشات الفرنسية الصينية حيث سمحت بكين لشركاتها بدعم موسكو في صناعة الأسلحة، عبر مُعاملات تجارية مناسبة والحصول بالتالي على تفوّق ملحوظ في الصراع.

وتساءل الكاتبان في "لو موند" عن إمكانية إثناء الصين عن مُساعدة روسيا بشكل أكبر؟ والضغط على بعض الشركات الصينية التي يُمكن أنّها تُشارك بشكل مباشر أو تُساهم بشكل كبير في المجهود الحربي الروسي. والأكثر من مُجرّد الإمداد المباشر بالأسلحة، وهو الخط الأحمر الذي يبدو أنّ الصين تحرص حتى الآن على عدم تجاوزه، فإنّ تسليم المُعدّات والمُكوّنات اللازمة لإنتاج هذه الأسلحة هو الذي يُشكّل محور الاهتمام بالنسبة لأوروبا.

وفي هذه النقطة، تدفع واشنطن العواصم الأوروبية لتكون أكثر مباشرة في التعامل مع بكين. وذلك باعتبار أنّ علاقة الشركات الصينية مع قطاع الأسلحة الروسي ليست حوادث معزولة، بل هي خطة استراتيجية شاملة تُنفّذها الصين مع روسيا لمُساعدتها على إعادة بناء قُدراتها العسكرية.

الاقتصاد كسلاح

وفي المقابل، قللت الخبيرة في الشؤون الصينية فاليري نيكيه، الباحثة وعالمة السياسة في مؤسسة البحوث الاستراتيجية بباريس، من أهمية الزيارة واصفة إيّاها بالبروتوكولية، مُشيرة إلى أنّ ذلك جاء بعد أسابيع قليلة من زيارة لبكين قام بها مستشار ألمانيا أولاف شولتز، الذي يظل على الرغم من الصعوبات التي يواجهها، صاحب الثقل الاقتصادي في أوروبا والشريك التجاري الأول لجمهورية الصين الشعبية داخل الاتحاد الأوروبي.

كما ويُطالب الباحث في معهد مونتين جوزيف ديلات، بسياسة صناعية أوروبية في مواجهة استراتيجية الغزو التي تتبنّاها الصين في عهد شي جين بينغ. وبرأيّه فإنّ هذا النوع من الاستراتيجية المُنسّقة، التي تستهدف المصالح الجيواقتصادية طويلة المدى للدول، يكشف عن الطموح الصيني: استخدام مواردها وإمكاناتها كسلاح اقتصادي وجيوسياسي لتبقى ضرورية في قطاع تقنيات إزالة الكربون في المستقبل.

ويُحذّر محللون فرنسيون، من أنّ سياسة فرّق تسد تقع في قلب الفكر الاستراتيجي الصيني عبر تقسيم الأعداء من أجل السيطرة عليهم بشكل أفضل. مُشيرين إلى أنّ التوازنات الاستراتيجية التي كانت سائدة منذ ما يزيد عن 6 عقود لم تعد مماثلة لما هي عليه اليوم، فالصين، على الرغم من الصعوبات التي تواجهها، أصبحت قوة هائلة يتوجب استيعابها باسم المصالح المشتركة.