أسوأ مقاربة لبنانية يمكن التفكير بها إزاء الاعتداءات الإسرائيلية المتنامية والتهديدات المتصاعدة بـ"صيف ساخن" هي المقاربة الانقسامية، أي أن ينقسم اللبنانيون فيما بينهم حيال التعاطي مع هذا الخطر الخارجي الكبير والمستمر منذ عقود.

فإذا كان من غير المقبول التعامل بمنطق التخوين والاتهام بالعمالة لكل من يبدي رأياً معارضاً لمسار الأمور، فلعله من غير الجائز كذلك تسجيل المواقف الاستعراضية في لحظة القصف الإسرائيلي المتواصل على جنوب لبنان منذ أكثر من سبعة أشهر.
لا يفيد النقاش السياسي في أوقات الالتهاب الأمني حول من أشعل الجبهة الجنوبية اللبنانية، فإسرائيل غالباً ما كانت سوف تفتعل ما يحرّك الواقع الميداني لتعطل عنصر المفاجأة لو لم يتم ذلك استباقاً لخطواتها. وهي قلما احتاجت، على مدى العقود الماضية، كثيراً من الذرائع أو التبريرات لتنقض على لبنان غزواً واجتياحاً وانتهاكاً مستمراً لبره وبحره وجوه، وهي سياسة واظبت عليها حتى بعد صدور القرار 1701 عن مجلس الأمن الدولي سنة 2006، وفي السنة الأولى لصدور القرار، بلغ مجموع الانتهاكات الإسرائيلية 939 خرقاً تتوزع على الشكل التالي: 735 خرقاً جوياً، و58 خرقاً بحرياً، و146 خرقاً برياً.
مشكلة ردع إسرائيل بالنسبة للبنان واللبنانيين مشكلة قديمة، ومعاناة أهل الجنوب عابرة للسنوات، فهم وحدهم تحملوا عبء المواجهة غير المتكافئة في ظل إهمال تاريخي من الدولة اللبنانية لتلك المناطق، ليس فقط في بناء آليات الردع المعقولة لكثير من الاعتبارات السياسية والعسكرية واللوجيستية، إنما أيضاً في توفير الحد الأدنى من مقومات الصمود أو بناء الملاجئ وتحصين تلك المناطق بما يحد من الأضرار.
بطبيعة الحال، فإن سوق هذه الاعتبارات لا يعني إتاحة استبدال الدولة المركزية ودورها المحوري بأي فصيل آخر، حتى لو أنها كانت مقصرة تاريخياً في إتمام واجباتها مثل أي دولة تحترم نفسها حول العالم وتتحمّل مسؤولياتها كاملة تجاه مواطنيها في الأطراف، خصوصاً إذا كانت تلك الأطراف تحاذي دولة محتلة ولديها سجل معروف من النوايا العدوانية تجاه محيطها برمته.
وتوازياً مع ذلك، ثمّة مسؤولية لا يمكن التهرب أو التنصل منها تتعلق بصياغة خطة دفاعية وطنية لبنانية تمكّن لبنان من توفير الحد الأدنى من ميزان الردع أو التوازن السلبي المطلوب مع الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي المساهمة في تشكيل القناعة لدى المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية بأنه باتت لدى لبنان إمكانات للرد، وأن قصفه وتدمير مرافقه ومدنه وقراه كما كان يحصل في كل مرة، لا يمكن أن يمر دون أثمان مقابلة، وأن تكرار تجربة الغزو البري سوف تكون مكلفة وباهظة الثمن.
وهذه هي نقطة البداية بالنسبة لتكريس توازن الردع، بحيث لا يبقى لبنان عرضة للانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة دون انقطاع منذ سقوط فلسطين وحدوث النكبة، وإعلان دولة إسرائيل سنة 1948، إذ لا يمكن أن يكون لبنان ساحة مستباحة دون أي رادع.
التحدي الكبير يكمن في كيفية تنظيم الانتقال في وظيفة الدفاع عن لبنان إلى الحكومة المركزية التي يفترض أن تمتلك وحدها قرار الحرب والسلم أسوة بكل الدول ذات السيادة حول العالم، ولكن من دون إغفال أهمية لحظ هوامش معينة ترفع من مستوى القدرات الدفاعية ولا تكون في الوقت ذاته متفلتة من القيود التي تحددها المصلحة الوطنية اللبنانية العليا، التي لا يمكن لفريق واحد دون سواه أن يستأثر بتحديدها، بل المطلوب أن تعكس الرؤية الوطنية الجامعة التي تمثل إرادة المجتمع وتطلعاته.
الأكيد أنه في لحظة احتدام المعارك القتالية والقصف المركز الذي يستهدف الجنوب اللبناني، يصبح الحديث عن هذه المسائل في مرتبة ثانوية، لأن الأولوية هي لاستعادة الهدوء والاستقرار إلى الجنوب اللبناني، والسعي الحثيث لإبعاد كأس الحرب الشاملة عن لبنان الذي يمر بظروف قاسية وصعبة سياسياً ودستورياً واقتصادياً ومعيشياً وهو يعاني من الشلل المؤسساتي في ظل غياب التفاهم المحلي (والخارجي) على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق العماد ميشال عون في 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2022 دون انتخاب خلف له.
يستحق لبنان أن ينعم بالاستقرار والهدوء، وهو الذي لطالما كان متقدماً في الحريات والتعددية والتنوع، وأن يحافظ على دوره كرسالة وليس فقط كوطن منشطر على ذاته. وخسروا الآلاف من الشهداء، فضلاً عن الممتلكات والمساكن، وشاركهم لبنانيون آخرون في تسديد تلك الأثمان في أعوام 1978 و1982 و1993 و1996 و2006.
يستحق لبنان أن ينعم بالاستقرار والهدوء، وهو الذي لطالما كان متقدماً في الحريات والتعددية والتنوع، وأن يحافظ على دوره كرسالة وليس فقط كوطن منشطر على ذاته.