السبت 24 يناير 2015 / 18:28

الحزب الساكن في شعب نعم ولكن



-1-
في حمّى الغضبة التي انتابت فرنسا بعد أحداث "شارلي ايبدو" في باريس يوم 7 يناير 2015 ضاقت أذْنُ باريس الرسمية خاصة وعواصم أوروبا عامة وعجزت عن الاتساع لسماع نغمة نشازٍ خارج (أنا شارلي) أو (نحن شارلي).فهذها لعبارة انطلقت مباشرة بعد الحدث المدوّي، وصارت الأكثر رواجاً واستخداماً فلا كلمة تعلو عليها في تظاهرة باريس 11 يناير 2015، وكل من ناقشها عُدَّ خارجًا عن الإجماع العام ومغردا خارج السرب الذي لا صوت له فقد صار قطيعًا باسم الديموقراطية لمحاربة الإرهاب وصار النشيد : "انا شارلي "وأنت شارلي، و"نحن شارلي".

-2-
لكن/
كلمة "أنا شارلي" هي الأكثر وقعاً من "نحن شارلي" وذلك لأنّ (je suis) هي وفاعل وتحمل الكثير من الالتباس عند الترجمة حيث لا بدّ من السياق، فهي تُترْجَمُ (أنا أكون) كما تٰتَرجَمُ (أنا) أو (أنا أتْبَع). وهذا ما حدا ببعض الأطراف الاخرى في فرنسا وخارجها إلى أن تسرق هيكل الشعار وتعوض شارلي بما تريد مثل الرسول الكريم محمد، وصارت الكتابة مقرونة بترجمة عربية محددة للمعنى لا تقبل الالتباس ولا المراوغة في التأويل (je suis Mohamed ) أيْ (أنا أتّبعُ محمداً) .

-3-
في التحقيقات التي قامت بها كبريات الصحف الفرنسية مثل "لوموند" وشملت في الساعات الأولى من جريمة شارلي ايبدو، كان السوال عن رأي التلاميذ والمراهقين فيما حدث، هناك إمكانية لدقيقة صمت، ولكن، لم تكن نتيجة التحقيق مستجيبة للرأي الذي أراد أن يسود وكانت لمعارضة :"أنا لست شارلي" و"أنا لا أتبع شارلي".
ولكن
هل يمكن للرأي الاخر أن ينبع من نهر "لكن " ؟

-4-
يذكر العالم ما كان قاله جورج دبليو بوش اثر اعلان الحرب على الإرهاب بعد احداث 11 سبتمبر 2001، وكان اقتباساً من قول السيد المسيح: "من ليس معي فهو ضدي"، ولم يكن بوش المسيحي الديانة هو أوّل من استعملها في التاريخ، فهناك الكثير من القادة من مختلف الديانات والايديولوجيات يستخدمون هذه العبارة الاستقطابيه الاستبدادية التي تريد من الآخرين الاستجابة الفورية والانخراط الأعمى في المشروع الذي يرونه هامّا ومصيريّاً ولا يستحقّ إعمال الرأي لأنّ المسالة تكون حاسمة في زمن السلم (للوصول إلى مكسب أو منصب) وفي زمن الحرب (من أجل مغنم).
ان منطق "من ليس معنا هو ضدنا" يفترض أنّه لا مجال للتنفس إلاّ بمنخار "بوش"، ولا مجال للرؤية الا بعين البيت الأبيض، ولا منجاة من جبهة الحرب لمن أرد السلام العالمي ضد محاربة الإرهاب الا بالانخراط في الجيش الأمريكي .

-5- 
استطراد
-------
أتذكّرُ جيّدًا هذا المنطق : انت معي او انت ضدي .
كان هذا الخطاب ذاته ، يقود عاطفة شاعر ديموقراطي نرجسيّ مثل نزار قباني حين قال لامرأته : إنّي خيّرتُكِ فاختاري/ ما بين النوم على صدري / أو بين دفاتر أشعاري "
فالحبيبة المصابةُ بحبّ الشاعر قد ألْغِيَتْ إرادتُها ، ولا قرار لها في واقع الحال ، لانها في هذا الخيار الثنائي لا تخرج عن دائرةٍ أنجزها الشاعر وحده دون شريكته ، بعد أن حاور نفسه ، لتكون الدائرة مغلقةً حولها ، فلا حول لها ولا منفذ ، و " لا توجد منطقةٌ وُسْطَى ما بين الجنّةِ والنار" وفي هذا الحال ، فان الشاعر يؤكّد للحبيبة السليبة الإرادة أنّها مضطرة ومسيّرة ، ولا خيار لها غير ان تسبح في منطقته الجغرافية ومياهه الإقليمية ، ولا قولَ لها غير ما يقوله منطقُ العاشق الاستقطابيّ في قصيدة اخرى عنوانها ( إلاّ معي ) وفيها لا يستثني نزارٌ التهديدَ في لهجته العاطفية التملّكية الحاسمة حيث يبدأ القصيد على هذا النحو :
ستذكرينَ دائماً أصابعي..
لو ألفَ عام عشتِ.. يا عزيزتي
فضاجعي من شئتِ أن تُضاجعي..
ويختمها بالقول الفاصل الحاسم حيث لا مجال ل" عزيزته " كيْ تتعرف على كيانها باعتبارها امراةً إلاّ من خلال العاشق الفحل الفاتق الناطق في ختام القصيدة :
"فلن تكوني امرأةً..
إلاّ معي..
إلاّ معي...

-6-
إن أوروبا تندهش حتى من "البابا" الذي اعترض على الإفراط في استخدام أو استهلاك الحرية بمثل هذا المنطق الذي يزعم انه لا يعترف بأيّ سقف ، علما وانه في حرية التعبير الأوروبية حدٌّ معلوم معروف منتصب امام كل من يتحرّك في الفلك الإعلامي أو الأدبي أو الجمالي، وقوانين أوروبا صارمة، ومن ورائها السيف الإسرائيلي المسلول ضد كل من تحدثه نفسه الأمّارةُ بالفنّ أو الفكر أو بالنميمة أو الهمس بهدف الدس على الرواية الصهيونية للمحرقة النازية، وأي تشكيك في تفصيل منها أو في عدد الضحايا اليهود هو بمثابة الدخول الى منطقة النار في الاعلام الاوروبي، فلا مجال للاقتراب، أو الإشارة اليها بالتشكيك من قريب أو بعيد

-7-
إن أوروبا المسيحية الديانة في غالبها لا تتوقع من أحد أن يرفع صوته ضد هذا الذي يسمونه حرية التعبير، فقد قال البابا كلمته الحاسمة حيث أدان القتل باسم الله، ولكنه كان من حزب لكن حيث أكّد على أنه لا يجب أن تمس معتقدات الناس، وأكد على حرية التعبير والالتزام في هذه الحرية بالحدّ، وذهب البابا "فرانسيس" إلى معنى "الأمّ" وما تعنيه من القداسة عند الابن حين ضرب المثل وقال :
صحيح انه لا يجب رد الفعل بعنف ، ولكن افترض لو انّ السيد قاسباري (منظم رحلة البابا إلى آسيا) سبَّ لي امّي، فعلى السيد قاسباري أنْ ينتظر منّي لكْمَةً ، وهذا عاديّ"
ولعل هذا المثل يشكل درساً تقريبياً بالصورة التي تقترب من الكاريكاتور :
" البابا وقد صار ملاكماً، لأنّ منظّم رحلة البابا شتم "ماما" الباب "

-8-
ستحتاج اوروبا الى دربة طويلة على نقاش مرير لا تستسيغه حنجرتها التي اعتادت على الرأي والرأي الاخر ، فلطالما حدّثت اوروبا نفسها بالخلاف ولكن //
اوروبا اعتبرت نفسها الخليفة الوحيدة للديموقراطية في عالم يعاني من الخلافة .
وقد يعوّل العرب والمسلمون إجمالا على الانتصار بالقنبلة الديموغرافية التي يتسابقون لصنعها بمواليدهم في اوروبا ، فيمكن للعرب في قادم الأعوام ان يكون منهم رئيس أوروبي ، ولكن//
سيكون رئيساً أوروبّيا اولا قبل ان يكون عربيّ القومية .

-9-
إنّ قرار الإقامة في مدينة لكن، يحتاج إلى التأنّي، فـ "لكن" تقع في منطقة وسطى، وهي مدينة استدراكية احترازية، فيها لجام الطموح الجامح وإحباط حماقة حزب ساكن في "نعم" ولا يرى الآخرين الا شعبا تابعا ومنخرطا بلا شروط في خطاب الحماسة على منبر الحمّى، فهو شعب نعم، ولكن.