الأحد 30 أغسطس 2015 / 18:51

ملاحظات أساسية حول فكرة "دولة الدين" عند المتأسلمين

حولت الجماعات والتنظيمات الدينية التي تسعى إلى السلطة السياسة الإسلام إلى أيديولوجية فجة، غابت فيه روح الدين الحنيف ومقاصده، وذلك في إطار مسعاها الحثيث إلى إقامة الدولة الدينية أو "دولة الدين" التي يزعمونها. وهناك ملاحظات أساسية حول هذه المسألة تنسحب على الحالة العربية ـ الإسلامية بوجه عام، ويمكن ذكرها على النحو التالي:

1 ـ تتعامل الجماعات والتنظيمات الدينية المسيسة مع الدولة باعتبارها فريضة دينية يتساوى إنكار ضرورتها مع الكفر الذي يحل به القتل، منطلقة من مقولات وتصورات قديمة تعتبر "الخلافة" ليست مجرد اجتهاد من المسلمين الأوائل كان يلائم زمانهم بل هي أصل من أصول الإسلام، ولذا فإن إقامتها واجبة، والكفاح من أجلها ضرورة، حتى لو انزلق هذا الكفاح إلى استعمال العنف المفرط ضد بقية المسلمين، ممن ارتضوا بالدولة الوطنية الحديثة، لاسيما ضد المفكرين والمثقفين والساسة التابعين للأحزاب المدنية، الذين يتعاملون مع "الخلافة" بوصفها شكل إمبراطوري للحكم مثلما كان سائدا في القرون الوسطى ولم تعد إقامته ممكنة، فضلا عن أنها غير مرغوب فيها، لأنها عودة إلى الوراء، والتاريخ لا يسير بظهره.

2 ـ لا تعد مسألة "تديين الدولة" و"دولنة الدين" سهلة، بأي حال من الأحوال، والفصل فيها ليس ببساطة فض نزاع بين دولتين على الحدود، أو بين شركتين على النقود، فمن الصعب إقناع قطاع عريض من الناس بحدود مائزة بين "الدين" و"الدولة"، لاسيما بعد الأفكار التي تم بثها في الرؤوس، والمعاني التي وقرت في النفوس، عن تجربة الرعيل الأول من المسلمين أو "الفترة الكلاسيكية للإسلام"، والذين أعيد صياغة تجربتهم لخدمة المشروع الإمبراطوري الأموي والعباسي والعثماني، بما دمج الدين في الدولة، والدولة في الدين، وجعل المسلمين المعاصرين يتحدثون عن أن تجربة الإسلام، وهم يقصدون في هذا تاريخ المسلمين، غير تجربة المسيحية الغربية، وفي هذا من دون شك تعمية على الدين لحساب الدنيا، وهروب من مواجهة الحقيقة التي تقول بوضوح إن المسلمين استبدلوا تجربة الرجال الأقدمين منهم بالقرآن وما ينص عليه ويطلبه ويوجبه ويفرضه.

وفي الحقيقة لم تستسلم الحكومات التي تعاقبت على بلدان المسلمين لهذا الدمج، وحاولت طيلة الوقت أن تعين أو ترسم حدوداً بين "الدين" و"الدولة"، تحت شعارات من قبيل "لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة" الذي أطلقه الرئيس المصري الراحل أنور السادات، لكن هذه الحكومات كانت مضطرة، في ردها على خطاب ومسلك الجماعات الدينية المسيسة، أن تترك الدين يمتزج بالدولة عند بعض أطرافها، وتقاوم في الوقت نفسه المتطرفين والمتشددين والمتزمتين والتكفيرين الذين لا يرضون عن "دولة الدين" بديلاً.

3 ـ بذلت الجماعات الدينية صاحبة المشروع السياسي، ابتداء من جماعة الإخوان التي تم تأسيسها عام 1928، جهداً مضنياً، وجاراها بعض الباحثين والمفكرين والكتاب، في سبيل تحديد أطر وملامح أساسية لما يسمى "النظام السياسي في الإسلام" وتم تأليف آلاف الكتب في الاتجاه، سواء بالحديث فيه مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة، وباتت هذه الكتب تسمم المجال الفكري العام للمسلمين المعاصرين. وعلى مستوى الجهد نفسه تسخر هذه الجماعات جزءاً لا يستهان به من طاقتها في مقاومة الآراء التي تدحض وجهة نظرهم تلك، ويتم تشويه أصحابها لا روية ولا ورع.

4 ـ استفادت الجماعات والتنظيمات الساعية إلى إقامة "دولة الدين" في تسويغ خطابها الذي يرمي لتحقيق هذا الهدف من إخفاق النخب اليسارية والليبرالية بشتى صنوفها، والتي حكمت البلدان العربية والإسلامية في مرحلة ما بعد رحيل المستعمر، في إقامة "دولة وطنية" راسخة المعالم، تتمتع بشرعية قوية، ورضاء جماهيري واسع النطاق، وبات أتباع هذه الجماعات يردون على كل من ينتقد خطابهم قائلين: "لقد حكم الليبراليون واليساريون والقوميون وأخفقوا، فامنحونا فرصة، لأن مشروعنا هو الأحق بالاتباع والتطبيق" لكن حين وصل الإخوان إلى الحكم في مصر، اكتشف الناس أنهم لا يملكون سوى أمنيات حول الدولة التي يريدون بنائها، وأن مفهوم الدولة الوطنية والمدنية لم يرسخ في أقوالهم وأفعالهم بعد.

5 ـ شكلت الجماعات الساعية إلى إقامة "دولة الدين" معضلة حقيقة أمام التطور الديمقراطي في مصر وغيرها، فابتداء هي لا تؤمن في دخيلة نفسها بالديمقراطية، وإن أظهرت عكس ذلك في مجاراة لمن حولها ومداراة عن حقيقة أمرها، أو في ظل تحايلها على القوى السياسية والفكرية الأخرى في سبيل دمجها في العملية السياسية والدفاع عنها، لاسيما لدى أصحاب الخطاب الحقوقي.

كما أن وجود هذه الجماعات في الحياة السياسية والاجتماعية أعطى السلطات المتعاقبة فرصة لتوظيفها "فزاعة" للداخل والخارج، وانتهاج القمع، بدءاً من الخطاب وانتهاء بالممارسات ومروراً بالتشريعات، بدعوى أن هذا هو السبيل الوحيد لمواجهة المتطرفين وقطع الطريق عليهم حتى لا يختطفوا الدولة. وقد أعطت التجربة المصرية الأخيرة دفعة قوية لمثل هذا الخطاب في ظل ما ترتب على التجربة المزرية للإخوان في الحكم.