الأربعاء 3 فبراير 2016 / 18:51

الروائيون

الصدفة عمياء، لكنها تحدث بتأكيد وثبات، وهي ليستْ مُأكَدة ومُثبَتة من طرف مجهول، بل هي التي تؤكد وتُثبت نفسها في كل مرة. تبدو الصدفة في تأكيدها وثباتها، وكأنها تضطهد موضوعها، لكنها بالفعل تقصد موضوعها، لكنَّ القصد هنا أيضاً ليس له غاية، من طرفها على الأقل. اعتاد الروائيون على وضع موضوعاتهم، أو شخصياتهم، في طريق الصدفة، ثم يقولون القول العزيز على قلوبهم: ماذا يحدث لو أن البطل اصطدم بالبطلة مرتين متتاليتين، بفاصل زمني، في نفس محطة القطار. يهتم الروائيون بموضوعاتهم أكثر من اهتمامهم بالصدفة، ولهذا تبدو الصدفة، وكأنها تضطهد أبطالهم، أي أنها تحدث لمعنى ما، وعلى الروائيين أن يجدوه. إمَّا الصدفة، أو موضوعها. ينتصر الروائيون في الغالب لموضوعها، فتتراجع الصدفة في الخلفية، ويبدو البطل مُضطهداً في اللقاء، ويرجع البصر بمعجزة إلى الصدفة التي جلستْ على مقعد بعيد تراقب غِبْنها، أي أن الروائيين هم مَنْ يضطهدون الصدفة. في عمل فني كبير لا يُعوَّل كثيراً على الصدفة، لا نجدها عند بروست أو كافكا أو جويس. هناك في عائلة الصدفة قريبان أكثر بعداً وشمولاً، وهما القدر والمصير، وهما أيضاً يتمتعان بعدم الرؤية.

كان نيتشه يعتقد بأن الصدفة تحدث من طرف مجهول يرمي زهرين على طاولة الوجود، فتتخلَّق الصدفة في نتيجة قراءة الزهرين، وعلى هذا اعتقد أيضاً في لاعب جيد يستطيع برميته المُحْكَمَة تحقيق أرقام الصدفة، ولاعب سيئ لا تؤدي رميته إلى رقم الصدفة المنشود. هنا نيتشه مثل الروائيين، افترض أن طرفاً مجهولاً هو الذي يرمي الزهر، مع أنها رمية من غير رام.

ينتمي الكاتب والروائي الكبير إدوار الخراط الذي رحل عن عالمنا، جمالياً إلى سلالة هنري ميللر، لورانس داريل. أقصد هنا الكتابة المعنية بمشهد الحب أو المشهد الحسي. ومشهد الحب هو الباب الكبير للأدب، ولهذا فهو متاح للجميع، ولهذا أيضاً يُصعب إيجاد شيء بعد الدخول منه. فمشهد الحب مُتهم بجيرة جار مبتذل وشرس، اسمه البورنوجرافي، وهو جار قادر على القتل الجمالي لكل مَنْ يقترب من مملكته. حتى في السينما يسقط بازوليني وبرتولوتشي ولارس فون ترير في حبال البورنو. فيلم سالو، وفيلم التانجو الأخير في باريس، وفيلم شبق. في حالة إدوار الخراط تعمل اللغة على رفع مشهد الحب إلى شيء أعم، إلى شيء أكثر تجريداً، لكنها تفشل لطلبها المحموم والدائم للكلمات الحسية ليس لوصف الجسد فقط بل لوصف قطعة رخام أو قطعة حديد.

كانت أعصاب إدوار الخراط الفنية عارية تماماً، ومُستَثَارة جمالياً طوال الرواية، فهو لم يكن في حاجة إلى بناء الدراما طالما أن عِدَّة اللغة ومُرادفاتها جاهزة قبل العمل الفني، فما عليه سوى صبها في جسد رامة أو في ورود لوحة مائية لعدلي رزق الله. يستخدم إدوار كثيراً الحرف أو الأداة "قط"، وتختص بالنفي، ما فعلتُ هذا قط.. إلخ. ويستخدم أيضاً في الوصف، الأثيث، الوحف، الحوشي. جملة إدوار الأدبية بسيطة على غير ما يبدو، مليئة بتكرار النعوت، تُصب الكلمات في الجملة بالألف واللام كالبنيان المرصوص، أعمدة الخشب القديم، مخلوقات الأشواق الطائرة. الأمر أشبه بتعزيم على اللغة لإطلاق سحرها. في ثلاثية إدوار الخراط رامة والتنين، والزمن الآخر، ويقين العطش، يختفي أي وصف جسدي للبطل ميخائيل، لا لون العينين، ولا لون البشرة، ولا لون الشعر، ولا طول أو قصر القامة. ستار من الصمت على جسد ميخائيل، مع أن مشهد الحب يتطلب ذلك. يُغرق الراوي بطلته رامة بصفحات طويلة من الوصف الجسدي، وكأنه يسد ثغرة غياب ميخائيل، وكلما ازداد وصف رامة، كلما ازداد غياب ميخائيل. ميخائيل صوت دون جسد. لكن كيف يتم مشهد الحب بين جسد رامة وصوت ميخائيل؟ يتم المشهد الحب عبر الأماني، وليس عبر الموقف الدرامي.

بالأمس في ساعة ظهيرة جلستُ بجوار النافذة بعد أن أعددتُ فنجان قهوة. كنتُ أترصد الأفكار المعتادة التي تأتي لي كثيراً في أماكن أخرى، قبل النوم، في مقهى، أثناء الحديث مع صديق. لم تكن جلستي إذن بجوار النافذة تعني شيئاً جديداً يخرجني من الملل، مع أنني أثناء إعداد القهوة، توقَّعتُ أفكاراً أخرى لا بد وأن الاسترخاء بجوار النافذة، قادر على توليدها. كانت الحركة في جراج العمارة، وهو الفيو المتاح لي من حدوة الحصان المحتضنة في منتصفها نافذة غرفتي، بطيئة نسبياً على غير العادة. سيارة رينو زرقاء تصعد منحدر فتحة الجراج، وأخرى سوداء لم أتعرَّف على ماركتها تهبط في نفس المنحدر، بعد زمن قصير من صعود الرينو الزرقاء. فكَّرتُ أن فتحة الجراج الرئيسية لا تحتمل صعود وهبوط سيارتين في وقت واحد، أو أنها تحتملهما تحت ضغط دقيق يتطلب من السائقين مهارة خاصة. المهارة نعم بالتأكيد.

في فيلم راقص استصعبتْ بطلة الرقص الأكاديمي ضيق الحلبة، وازدحامها بالراقصين الفطريين. أكَّد لها البطل الراقص بالفطرة أيضاً أن الحلبة لهما، أي أن الأمر يتعلق في النهاية بمهارة خاصة. بالتأكيد عاينتُ مرة من النافذة، سيارتين، واحدة في طريق الصعود من فتحة الجراج، وأخرى في طريق الهبوط إلى فتحة الجراج.