الخميس 1 سبتمبر 2016 / 19:27

"القدوة الحسنة" عند محمد بن زايد: فلسفة تأسيسية للتربية الأخلاقية

في حدث بالغ الأهمية والتميز وفي سياق الاحتفاء بيوم المرأة الإماراتية، التقى صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وليّ عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، نخبة من النساء الإماراتيات يتفاوتن في الأعمار والمناصب والخبرة، ويصدرن عن خلفيات ثقافية مختلفة، لكنّهن يشتركن جميعا في انتمائهن لدولة الإمارات، بعضهن يعمل في القوات المسلحة أو في المؤسسات المدنية، فيهن متعلمات ومثقفات، وعاملات مكافحات، في قوس قزح يمثل مشارب مختلفة وينطوي على تجارب إنسانية عميقة.

وقد صدر حديث سموه المطوّل إليهن، في جوهره، عن الاعتزاز بإنجازاتهن وتثمين ما قدمنه للدولة في مسيرتها الحضارية، وكان حديثه، كعادته، حميمياً في نبرته، رؤيوياً في ديباجته، عميقاً في طروحاته، يتنقل بين الماضي والحاضر في أمثلته، يستحثه المستقبل البعيد، واستمرارية بناء الدولة والتنمية التي تنهض، حسب منظوره المتبصر، على القدوة الحسنة التي ينبغي الاستمرار في صناعتها على أسس حديثة، من خلال معايير علمية، واضعاً نصب عينيه القوة غير المحدودة التي يمكن أن تجنيها الدولة من وراء النهوض بتقديم " القدوة الحسنة" للمجتمع.

ونموذج "القدوة الحسنة" هو ركيزة أساسية من ركائز "التربية الأخلاقية"، فالأخلاق تنهض بالقدوة، والقدوة لا تحيا بمعزل عن الأخلاق، التي لا يعدها سموه غرساً تعليمياً فحسب، بل شأن أسري في المقام الاول، قد يساعد التعليم في تكريسه، لكنه لا يمكن أن يبث فيه الحياة، لأنّ الروح التي تجعل للقدوة الحسنة كفاءتها هي روح مجتمعية. ولذا يجدر بالإعلام، أن لا يظل، كما أشار سموه، يراوح في مكانه فيسلط الضوء على نموذج بعينه من "القدوة الحسنة"، بل عليه أن يكتشف النماذج الأخرى، ويفسح لها المجال ويحللها ويستقصي محاسنها وقدرتها على صناعة المستقبل، فعلينا أن "نشجع القدوة الحسنة لأننا نحتاج إليها"، كما قال سموه بدقة وإيجاز.

في مفتتح الكلام كان يحلق في عالم من المشاعر الوجدانية الرفيعة تتداعى إلى ذهنه صورة القائد المؤسس - القدوة، ولعل من تأمل وجه سموه في تلك اللحظات المفعمة بالمشاعر، رأى مزيجاً من الفخر والأسى الشفيف؛ الفخر بالمنجز الحضاري الذي وضع الشيخ زايد، أجزل الله له المثوبة، أسسه، والأسى لأن رحيل ذلك القائد الفذ ظل باعثاً لحزن شفيف في نفس الابن البار الذي يعرف ما عاناه والده وما تحمله من مشقة، وهو حزن لا يتناقض مع التسليم بأقدار الله في الحياة والموت. أجل، لقد توقف سموه ملياً عند المشاعر التي تنتابه، وتمنى لحظتها أن يكون الراحل الكبير الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله حاضراً، حتى يرى غرسه الذي أينع وأثمر وكيف صارت دولة الإمارات شجرة راسخة أصلها ثابت وفرعها في السماء.

لقد أضحى معتاداً أن يتكرر اسم الراحل الكبير في أحاديث الشيخ محمد بن زايد بوصفه مورداً للحكمة وقدوة نتعلم منها، فهو الغائب الحاضر، الشاهد والمشهود، به تقاس الإنجازات ومنه تؤخذ العبر والدروس، وبين المؤسس والقائد صاحب الرؤية تبيّن الوقائع أن دور المرأة الإماراتية، لم يبدأ مؤخراً، وإنما بدأ منذ فجر التاريخ الخاص بالمنطقة، وتعزز بقيام دولة الإمارات العربية المتحدة.

ويمثّل حديث سموه لحظة تاريخية فارقة، فيها استجلاء لمعنى القدوة الحسنة، ودورها في بناء الدولة وصنع التنمية. ولكي يبرهن على صدقية هذا النموذج، تطرق إلى تحدياته التي قد تلغي وجوده، وتهدر فرص تحققه في دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان سموه يعزز حديثه الضافي بأمثلة تأخذ أبعاداً تاريخية وسياسية ودينية وتعليمية وتربوية، تدور حور محاور ثلاثة هي: المعوقات والفرص والنموذج.

تشكل "القفزة الحضارية" نحو المستقبل أحد التحديات أمام القدوة في حديث سموه، والقفزة هنا لحظة تنتقل فيها الأمة في مسيرتها التنموية على نحو سريع، فتؤثر في العادات والقيم، وليس من شك أن حديثه ذو صلة بما يعرف بالصدمة الحضارية التي قد تفضي إلى لون من الاغتراب أو الاستلاب الذي يعطل قدرة الفرد ويسلبه فاعليته. ولحسن الحظ فإنّ الآباء المؤسسين في الإمارات الذين كانوا قدوة عظيمة لنا، صدروا عن وعي كبير بالتحديات، لذا أعدوا العدة ووضعوا الأسس لتلافي التاثيرات السلبية وظلوا في كل ذلك يصونون منظومة قيم القدوة الحسنة، لإدراكهم بأن ضياعها يفتح الباب على مصراعيه، أمام "سراق العقيدة"، كما سماهم سموه، الذين يدّعون الامتلاك الحصري للقيم سعياً منهم إلى اختطاف عقيدتنا وتشويهها بما يخدم مصالحهم الضيقة، وكان الأوائل، يدركون مثلما ندرك نحن اليوم، بأن تحديات التطور والتقدم ينبغي أن يكون مستمراً دون أن تتعرض القيم إلى الجمود أو الضياع.

إنّ الفرصة كبيرة أمام صناعة "القدوة الحسنة"، النسائية خاصة، إذا ما أخذنا في الحسبان التجليات التاريخية لدورها المشرف قبل قيام دولة الإمارات. وقد بينّ سموه بعض نماذج القدوة الحسنة النسائية، كالمرأة التي قدمت نموذجاً استثنائياً في العقد الأول من القرن العشرين، وكانت تمتطي الخيل وتحمل السلاح دفاعاً عن الوطن والقيم، مثل هذه النماذج التي سلط سموه الضوء عليها، تدلل أن الإمارات لا تحتاج إلى اختراع القدوة الحسنة كما يفعل غيرها ممن لا يمتلك تاريخاً، فيلجأ إلى المخيال التاريخي، لكن علينا أن لا ندع النموذج البارز والجاهز، وإن كنا نفتخر به ونعتز، يستحوذ علينا، بل علينا أن نبحث في التاريخ أيضاً لاستكشاف النماذج المتنوعة للقدوة الحسنة من دون أن نقدم هذه القدوة الحسنة تقديماً دعائياً تفقد فيه عمقها وحيويتها المؤثرة عندما تبقى بمعزل عن التنوع.

كما أنه لابدّ من المثابرة والتأني عند دعم النماذج الإيجابية في المجتمع، إذ الهدف نبيل والاختيار يجب أن يكون دقيقاً، فالأمر يحتاج إلى حكمة وبصيرة وإقناع حتى لا يفقد المجتمع طاقاته ومواهبه وإبداعه، والمرأة قادرة على ذلك، وفي وسعها أن تلعب دوراً كبيراً في تعزيز القيم وإحيائها خاصة تلك التي قاربت على الاندثار في الخمسين سنة الأخيرة ، وجهود المرأة هنا لابد أن تكون مضاعفة لأنّ الظروف التي نعيشها اليوم تختلف عما كان عليه الأجداد، لكنّ النساء قادرات على أن يكن شريكات في الرؤية حيث وفرت التكنولوجيا وتطور الاتصالات الإمكانات التي يمكن من خلالها النهوض بقيم القدوة الحسنة بكل معطياتها المحلية والعربية والعالمية، فقد صار العالم قرية صغيرة، وصار بالإمكان المقارنة بين الأدوار التي أنيطت بالمرأة وحققتها سواء أكان في بريطانيا أوفي ألمانيا أو غيرهما.

لقد قدمت قيادة الإمارات التوجيهات السامية كي تظل مسيرة التنمية تسير إلى جانب القدوة في المجتمع، فالإمارات تمتاز بكونها قادرة على المنافسة العالمية، وتستطيع أن تخطو خطوات كبيرة مثلما فعلت في السير نحو المستقبل، وفي الوقت نفسه فإنها رغم القفزات التي أحرزتها، وضعت الوسائل القوية للحفاظ على الأمن والأمان، على النقيض ممن لا يمتلكون الأدوات التي نمتلكها في الامارات.

لقد استطاعت الإمارات رغم قفزاتها الراسخة والقوية أن تحافظ على نموذج " القدوة الحسنة" فالمنطقة تنظر إليها اليوم وكذلك العالم بوصفها رائدة في هذا المجال، وهذا لا يعني أن الإمارات قد انكفأت على نفسها، فقد ظلت محافظة على الانفتاح دون أن تفقد خصوصيتها، وهنا يؤكد سمو ولي العهد ضرورة أن تشيد الإمارات مناهجها التعليمية لدعم المسيرة التنموية وتعزيز "القدوة الحسنة" في المجتمع والعالم، فنحن لن نتردد من الإفادة من المناهج العلمية التعليمية الناجحة عالمياً، خاصة في مجالات العلوم كالرياضيات والفيزياء والكيمياء والهندسة وغيرها، لكننا لابد أن نعتمد على أنفسنا في صناعة المناهج المعبرة عن ذواتنا، وأقصد هنا مناهج التربية الوطنية والدراسات الإسلامية واللغة العربية، فهذه المناهج الإنسانية لا يفهمها إلا ذلك الذي تعبّر عنه، فمن يستطيع أن يفهم خصوصية المجتمع للإماراتي غير الإماراتي. أجل، قد يحاول من لا ينتمي للمجتمع تفهم جمالياته الخاصية، وقد ينجح لكنه لا يستطيع التعبير عن الأعماق والخصوصيات والدقائق والظلال، إن هذا الشأن محلي جداً، وله كيمياء لا يفهمها إلا ابن جلدتها، وبحسب حديث الشيخ محمد بن زايد فإن نجاحنا الذي غرس مبادئ القدوة الحسنة في الأجيال، هو الذي يجعلنا نطمئن بأن الراية ستنتقل من جيل إلى آخر، وبذلك تسير الحياة ولا تتوقف المبادرات، فالانتقال سنة من سنن الحياة، وعليه فلتنتقل الراية انتقالاً يحافظ على قيمنا التي تقدمها لها نماذج القدوة الحسنة، وهنا يؤكد سمو ولي العهد بكثافة حازمة، أن الإمارات بخير، وهي قدوة حسنة لكثير من الدول.

من جانب آخر، يوضح حديث سمو ولي العهد، بجلاء أن القدوة الحسنة هي مضمون أكثر من كونها شكلاً، وأكثر من كونها كمّاً، وإن أردنا فهم ذلك علينا أن نستجلي الفروقات بين مصر التي يبلغ عدد سكانها حوالي الثمانين مليون وأندونيسيا التي تبلغ حوالي 250 مليون نسمة، ورغم هذا التفاوت العددي الكبير فإنّ في وسعنا أن نقول مطمئنين بأن مصر أكثر تأثيرا من أندونيسيا على العالم العربي، فالعدد لا قيمة له في كثير من الأحيان في التأثير والفاعلية، والقدوة الحسنة هي المسؤولة عن جعل مصر أكثر تأثيراً من أندونيسيا.

يؤكد الشيخ محمد بن زايد رؤيته بخصوص الكمّ والكيف على نحو استراتيجي، فالكم لا يعني شيئاً في التأثير، صحيح أنه مهم، لكن المضمون أو قل الكيف هو الأشد تأثيراً، والعلاقة بينهما أحياناً علاقة منطقية، إنها صادرة عن بنية الثقافة الجامعة، وقد ذكر علي بن أبي الطالب بأن الأقدار قد تناقض الرؤية: "لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين: العافية والغنى... بينا تراه معافى إذا سقم وغنيا إذا افتقر" وانطلاقاً من ذلك يمثل الشيخ محمد بن زايد بسيرة الراحل الكبير الشيخ زايد، فعندما كان الشيخ زايد شاباً له رؤيته المتبصرة كانت الظروف صعبة جداً، وتكاد تخلو من الأمن والأمان، لكنه لم يستسلم، بل سعى جاهداً لتحقيق مبتغاه رغم الصعوبات الجمة، وما إن حقق الشيخ زايد رؤيته فترسخ الأمن والأمان، حتى وجد نفسه قد كبر، ولذا فإنه قد أدرك بأن الصحة والأمن لم يجتمعا معاً، لكنه استطاع رغم كل هذه الثنائيات أن يتجاوز بنا البحر المضطرب، فصنع حياة، تتوفر فيها الظروف الصحية الملائمة مع الاستقرار والأمن والأمان، وبذلك فإننا اليوم وبفضل الله وحكمة الشيخ زايد نملك القدرة ونملك الفرصة في الوقت نفسه، ونحتاج دوماً في ظل هذه المعطيات إلى الحزم، الذي يعني ضمن ما يعنيه انتهاز الفرصة عند القدرة.

هنا يتوقف الشيخ محمد بن زايد، ليجول ببصره في أرجاء المجلس من جديد ويتوقف هنيهة، متأملاً الحضور الذي يفتخر به قائلا : أنتن في مجلس زايد، ولزايد بصمته الخاصة، في التخطيط والتنفيذ، والمحصلة التي نتجت عن مآثره العظيمة هي أنه جعل المسيرة التنموية سهلة، إنه قد وطد بأفعاله اللقاء السهل بين القدرة والفرصة، ووهبنا القدوة الحسنة، وهي وحدها المسؤولة عن التطور المهيب الذي نحن فيه، وهو تطور يعود الفضل فيه للكيفية التي استندت على أساس صلب، ولم يكن التطور ناتجاً عن الثلاثة مليون برميل من النفط، فالكم لا يعني شيئاً في غياب الكيف، وهذا الكيف يتمثل في التربية الوطنية التي تعد صلب التعليم وجوهره، وهي لا تصنع إلا بأبنائها وبناتها، ولا يمكن أن يرسخه أو يوطد دعائمه إلا بنوه.

لقد كانت كلمة الشيخ محمد بن زايد للنخبة النسائية، التي شرفت بالإصغاء لها، كلمة تاريخية تستحق أن يتوقف عندها، وقفة طويلة، أولئك الذين يعدون منهج "التربية الأخلاقية" فلقد استطاع سمو ولي العهد أن يقدم نموذج "القدوة الحسنة" تقديماً عميقاً، لا بوصفها مرتبطة بالأفراد أو الأمة أو الدولة، بل بوصفها تعبر عن كل هذه العناصر، ولا تتوقف عند نموذج أحادي بل تنفتح على المستويات كافة، ولا تفاضل بين الرجال والنساء، بل تسمو وتؤمن بأن الرجال والنساء سواسية، إذا ما أحسنا تشييد نموذج القدوة الحسنة بعيداً عن التحيزات الجنسوية والدينية والسياسية والثقافية.