"إصرار الذاكرة" لسلفادور دالي (أرشيف)
"إصرار الذاكرة" لسلفادور دالي (أرشيف)
الأربعاء 6 ديسمبر 2017 / 20:59

الواقع والحلم

الثورة بمعناها العميق، هي مؤقتة، وخاطفة، وصاعقة، واستثنائية، هي تمزق عنيف في نسيج، يجب رتقه سريعاً عبر الإصلاح

وأنا صغير سمعتُ العِبَارة من والدي، وقرأتُ فيما بعد، شيئاً شبيهاً بها، فهي لم تكن حكراً على أحد، أي أنها عِبَارة تفتقد البريق، ويزهد الجميع في حق امتلاكها، ولهذا كانت تُخْتَصَر بشكل عابر، بأن القراءة هي إعادة قراءة. انتخاب عقلي لكتابٍ بعينه. تصلُّب في الذوق. تمتْرُس يائس أخير ضد الزمن. لم يقل لي أحد بأن إعادة القراءة كانت غير ممكنة لصغار السن، لأن كبار السن، ربطوا المتعة العقلية، بمرور الزمن، وبالجيوب والفراغات التي تتفتح أثناء إعادة القراءة. وصفوا الجيوب والفراغات بأنها تعطيل لعملية القراءة ذاتها، تعطيل لا إرادي، لهو طفولي على جانب الطريق، نعومة لصواميل العقل، تفويت الصواميل أشبه بالذاكرة اللا إرادية عند بروست. أضافوا زمن الجيوب والفراغات إلى زمن إعادة القراءة، لصنع وحدة شعورية غير قابلة للاختراق، يَصْعُب الوصول إليها.

الفردية جحيم الثوري، الذي يحب استنزاف حياته في تجمعات، ولأن ذاته ضامرة، فهو لا يستطيع البقاء معها كفردٍ، مع أنه يدعي العدمية التي هي عماد الفردية. قبل الثورة كان يمارس أيضاً الهروب من الذات، لكن ليس بغطاء النجومية، بل بانكسار ذليل، يُمرِّر وجوده على المقاهي، والمفاجأة أنه لم يكن يحلم بثورة، أو يتحدث عنها. كان كل حديثه يدور حول طموحات الوصول والنجاح، ولا يعرف تحديداً مهنة بعينها تدفعه للوصول والنجاح، ومع أنه مارس مهناً عديدة إلا أنه لم يبق في واحدة مدة كافية. حكمه يكون أن تلك المهنة لم تقدِّر إمكاناته الفائقة، فينتقل إلى أخرى. عدوه الأساسي هو الزمن، فالزمن ثقيل هادئ مثل الزيت، والثوري خفيف طيَّار مثل التنر.

وقع الثوري بحكم عدم معرفته، وجهله المظلم، طوال سبع سنوات، في خطأ بنيوي فادح، عندما أطلق شعار ثورته تحت اسم: الثورة مستمرة. الحقيقة أن الثورة بمعناها العميق، هي مؤقتة، وخاطفة، وصاعقة، واستثنائية، هي تمزق عنيف في نسيج، يجب رتقه سريعاً عبر الإصلاح. الشعوب تحب الثورة في الشهر الأول، وتلعنها في الشهر الثاني، وتتمنى أن تأتي بها، من على الحائط، بالشبشب، زي البُرص، في الشهر الثالث.

لم تكن المرة الأولى التي يتوقف فيها عند معرفته بأن كاتبين كبيرين، عاشا في عصر واحد، دون معرفة أحدهما بالآخر، وكأن هذا غير معقول، ويحتاج إلى تفسير دائم، وحتى مع التفسير الدائم، لا تُستَنْفد غرابة التزامن، ولا معقوليته، وإذا لم تكن الصدفة وحدها، وراء وجود كاتبين كبيرين في عصر واحد، فإن وجود آلاف بل ملايين في نفس العصر، ولا يعرف أحدهم الآخر، لا بد وأن يختلف عن وجود الكاتبين الكبيرين. القراءات اللا نهائية قامتْ بتسمين قيمة الكاتبين الكبيرين. عَلَفُ القيمة، تبْن المعرفة. نخرةٌ في نثار التبْن.

يقول لسان العرب: إن قبضة العشب الطري المختلط بالحمأ الأسود المبتل، هي أضغاث أحلام. أخذتُ ضغثاً من أرض الحديقة، وشددتُ عليه في قبضة يدي، ثم رفعتُ ذراعي حتى بان بياض إبطي، وضربتُ شرفة القصر، فخرجتْ لي سُرِّية من السراري، عليها دثار من القصب المذهب، وفي وترة أنفها خزامة من الفضة. فاحتْ من الروشن رائحة الند والعنبر والخزامى. كان خروجها سريعاً، كأنها كانت تعرف أن أخلاطاً ملتبسة بين عشب وطين، ستطرق حتماً شرفتها في ساعة ليل. قالت لي وهي تتكئ على حاجز الشرفة: يا أبا عتيق هل لك في العقيق؟. قلتُ: أنا لي وجْد وجوى. رمتْ لي كرة صغيرة من العقيق الأحمر، خطفتْ شيئاً من ضوء القمر. وضعتْ السُّرِّية يديها على وجهها خوفاً من سقوط كرة العقيق في الحمأ الأسود.

 تلقفتُ العقيقة من الهواء، فرفعتْ يديها عن وجهها، وقالت: فُزْ بنفسك. رأيتُ الكلاب السلوقية تخرج من وراء خميلة، وتنهب الأرض ناحيتي. أحكمتُ يدي على كرة العقيق، وجريتُ بكل طاقتي، فدخلتُ دغلاً كثيفاً، فيه أشجار أترج ونارنج وسفرجل. ضاقتْ المسافة بيني وبين الكلاب السلوقية، وهنا برزتْ سُرِّية الشرفة من وراء أيكة، وضربتْ وجهي بعودٍ من السفرجل، فوقعتُ في الحمأ الأسود. أخذتْ كرة العقيق من يدي، ومسحتها في طرف الدثار المقصب، فعادتْ كرة العقيق صقيلة، تخطف شيئاً من ضوء القمر. نَبَّهَتْ السُّرِّية أسنان الكلاب السلوقية على جسدي.