الروائي البريطاني إدغار والاس (أرشيف)
الروائي البريطاني إدغار والاس (أرشيف)
الثلاثاء 24 يوليو 2018 / 22:01

بسرعة فائقة

كانت نكتة الأوساط الأدبية في لندن، في عشرينيات القرن الماضي، تبدأ هكذا: رنين تليفون. المتحدث: ألو.. أريد محادثة السيد إدغار والاس؟ يأتي الرد مُختصراً: السيد إدغار والاس بدأ لتوه في كتابة رواية. المتحدث: لا يهم سأنتظر على الخط حتى ينتهي منها.

حبْسة الكتابة، أو طاقة الشحن المضغوطة في تسعة أيام عند إدغار والاس، تساوي حبْسة الكتابة، أو طاقة الشحن عند بروست، أو جويس في سنوات طويلة

لكل كاتب حكاية مع الوقت، وحكاية كاتب الروايات البوليسية، البريطاني الشهير إدغار والاس (1932- 1875)، مع الوقت، هي السرعة. تُنْجَز الكتابة بثلاثٍ، إمّا بسرعات فائقة، حالة إدغار والاس وجاك كرواك، أو بسرعات بطيئة، حالة مارسيل بروست وجيمس جويس، أو بسرعات معتدلة أشبه بروتين يومي مُقطَّر، حالة نجيب محفوظ وتوماس مان. وفي النهاية قيمة ما يُكتب لا يتعلق بسرعات الكتابة، فالقيمة تكون دائماً خارج الوقت، خارج الزمن، لكنها مُقدَّرَة بشكل عاطفي في حالة كُتَّاب السرعات البطيئة والمعتدلة، ومُهْمَلَة في حالة كُتَّاب السرعات الفائقة.

ربما اعتقد إدغار والاس أنه ينقل إيقاع حياته السريع إلى الكتابة، فهو ابن إحدى الممثلات الصغيرات التي تجوب فرقتها كل الأماكن. أودعتْ الممثلة ابنها في أحد الملاجئ، فتبناه سمَّاك فقير، يبيع السمك في لندن، وكان على إدغار أن يُصبح سمَّاكاً، لكنه عمل في إحدى المطابع، وقام بتوزيع الجرائد اليومية، وعمل في أحد مصانع الأحذية، ثم أصبح جندياً، وأُرسل إلى جنوب أفريقيا المشتعلة بحرب أهلية في هذا الوقت، وكتب مقالات، وبعثها إلى الجرائد، ثم أصبح مراسلاً حربياً لرويترز، وبعد ذلك أصبح مراسلاً لجريدة ديلي ميل، ثم اتجه لتأليف الروايات البوليسية، فكتب 175 رواية، و24 مسرحية، وأكثر من 160 فيلماً أُخِذ من رواياته، وهو مبتكر الوحش "كينغ كونغ"، أشهر علامات هوليوود. الفيلم عُرِضَ عام 1933، ومات والاس قبل ظهور الفيلم بعام واحد.

يعود إدغار والاس من أمريكا مُحملاً بعقود خيالية مع "شيكاغو ديلي نيوز"، التي اتفقتْ معه على تأليف عدة روايات بوليسية، وستكون الطبعة الأولى من كل رواية في أمريكا، وسيُدفع له خمسة آلاف دولار، وهو مبلغ كبير في هذا الوقت. لا بد من تسليم الرواية في الموعد المحدد. والاس يحب سباق الخيل، والرهانات عليها، أكثر من الكتابة نفسها، أو أن الكتابة ليستْ غاية في ذاتها كما هي عند أصحاب السرعات البطيئة والمعتدلة، بل هي مهنة عادية لكسب المال.

كان إدغار والاس يخسر كثيراً في الرهان أو المُقامَرَة تماماً مثل دوستويفسكي، بينما يؤكد سكرتيره روبرت كورتيس بإحباط نوعاً ما، أن الرواية المُفترض تسليمها إلى "شيكاغو ديلي نيوز"، والتي ستحتوي على مئة ألف كلمة، يجب الانتهاء منها خلال أسبوعين، وبالرغم من ذلك فإن إدغار لم يقرر حتى الآن البدء في الرواية. يمر أسبوع آخر، ثم يمر يومان، ولم يتبق لإدغار سوى خمسة أيام لكتابة روايته. هناك تعقيد هام في سرعات الكتابة، بل لعلها خدعة، أو تحايل أمام الوقت، يقوم بها كُتَّاب السرعات الثلاث، لكن الخدعة تبدو واضحة أكثر مع كُتَّاب السرعات الفائقة، وكُتَّاب السرعات البطيئة. على سبيل المثال، تأجيل البداية عند إدغار والاس تسعة أيام، تساوي تأجيل الكتابة عند بروست، أو جويس، سنوات طويلة. أقصد هنا أن حبْسة الكتابة، أو طاقة الشحن المضغوطة في تسعة أيام عند إدغار والاس، تساوي حبْسة الكتابة، أو طاقة الشحن عند بروست، أو جويس في سنوات طويلة.

يرتفع رنين التليفون في منزل إدغار والاس. ويدور هذا الحديث عن الرواية المُنتَظَر تسليمها، بين السكرتير روبرت كورتيس، وبين مدير مكتب "شيكاغو ديلي نيوز" في لندن.

كورتيس: بعد خمسة أيام تكون أمامك
المدير: وكيف هي؟
كورتيس: في غاية التشويق
المدير: جريمة؟
كورتيس: بالطبع جريمة.. دائماً جريمة
المدير: وما نوع الجريمة؟
يسعل السكرتير، ويسلك حنجرته، ثم يقول بخيبة ويأس.
كورتيس: بصراحة السيد والاس لم يبدأ بعد.. لكنه سيبدأ اليوم
المدير: كنت أعرف أنك كاذب.. عندي فكرة اذهب لسيدك
وقل له بأنك لا تعتقد بأنه سيُنجز الرواية، وراهنه على 100 دولار
كورتيس: السيد والاس يخسر فقط في رهانات سباق الخيل
المدير: مثل دوستويفسكي يخسر دائماً.. بالمناسبة هل قرأ السيد
والاس رواية "المقامر" لدوستويفسكي؟
كورتيس: السيد والاس ليس لديه وقت للقراءة، لكنني أخبرته أن
دوستويفسكي أملاها على آنا غريغوريفنا في 25 يوماً
المدير: ماذا كان رد فعله؟
كورتيس: كان سعيداً جداً، لأنه يُملي رواياته بعد الصفحات
العشر الأولى، أمام جهاز تسجيل، وأنا أضربها بعد ذلك على
الآلة الكاتبة
المدير: ألم يأخذه الفضول لقراءة "المقامر"؟
كورتيس: لا.. على العموم دوستويفسكي أيضاً لم يكن قارئاً
نهماً بقدر نهمه للمقامرة والكتابة.. إشارات متفرقة باهتة في
رواياته لغوغول وبوشكين، وكان يمكن الاستغناء عنها
المدير: طيب.. راهنه على 100 دولار، وسندفع لك المبلغ..
ناشر "شيكاغو ديلي نيوز" في منتهى السخاء بعكس ناشر
دوستويفسكي.. أبلغ سيدك هذا
كورتيس: لكن عدد قراء دوستويفسكي أقل كثيراً
من عدد قراء إدغار والاس
المدير: أنت مخلص لسيدك كما هي آنا غريغوريفنا
مخلصة لدوستويفسكي
كورتيس: لحظة.. السيد إدغار والاس بدأ لتوه في كتابة الرواية،
انتظر معي على الخط.