الجمعة 7 نوفمبر 2014 / 18:56

عرفات في الليالي الظلماء


اقترنت الذكرى العاشرة لرحيل القائد الفلسطيني ياسر عرفات (1929 ـ 2004) بواقعة فلسطينية بغيضة، شهدتها مدينة غزّة؛ انطوت على تنفيذ سلسلة تفجيرات استهدفت منازل شخصيات قيادية في حركة "فتح"، وكذلك المنصّة التي كانت مخصصة لإحياء الذكرى.

وأياً كانت الجهة التي تقف وراء العملية، فإنّ الواقعة في ذاتها تستذكر بعض دلالات غياب عرفات؛ أو هي بالأحرى، في بُعدها الرمزي وليس الوقائعي، واحدة من عواقب الفراغ القيادي الرهيب الذي تعاني منه الساحة الفلسطينية عموماً، وقطاع غزّة بصفة خاصة. ذلك لأنّ عرفات لم يصبح ضامن الوحدة الوطنية الفلسطينية، ذو النفوذ الأقوى على صعيد الشارع الشعبي الفلسطيني مثل مؤسساته المختلفة، والممسك بالأعنّة كلها، فحسب؛ بل صار، من جانب آخر، سدّاً فعلياً أمام تقديم المزيد من التنازلات لإسرائيل، أو التراخي إزاء تفاصيل الحلّ النهائي الجوهرية، حول القدس والمستوطنات وحقّ العودة وحدود الدولة الفلسطينية... تماماً حيث تُفتقد شخصيته اليوم!

وثمة الكثير من عناصر المفارقة التراجيدية بين زيارة عرفات الأخيرة إلى فرنسا، في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات، محمولاً على نقّالة طبيّة؛ وزيارته الرسمية الأولى إلى باريس، ربيع 1989، محمولاً على الأكتاف والأكفّ، وضيفاً على سيّد الإليزيه آنذاك فرانسوا ميتيران. وعلى ذمة دافيد ماكوفسكي، الكاتب الإسرائيلي وأحد أبرز معلّقي صحيفة "جيروزاليم بوست"، كان رولان دوما، وزير الخارجية الفرنسي آنذاك، قد عقد جلسة خاصة مع عرفات، طالبه خلالها أن يقدّم إلى ميتيران هدية لا تقلّ في قيمتها عن هدية المنظمة إلى أمريكا (أي خطاب جنيف الذي ينبذ الإرهاب، أو إعلان ستوكهولم السرّي الذي يؤكد استعداد المنظمة للعيش بسلام مع إسرائيل، وإدانة جميع أشكال إرهاب الدولة والأفراد).

وعلى ذمة ماكوفسكي أيضاً، حدّد دوما طبيعة المطمع الفرنسي، وزوّد عرفات بالكلمة الذهبية التي ستجعل من الهدية قنبلة مدوية، إعلامياً في الأقلّ، وجزاءً وفاقاً لحسن الوفادة الفرنسية. وأما الهدية فهي نعي "الميثاق الوطني الفلسطيني"، الذي ينصّ على الكفاح المسلح كأداة لتحرير كامل التراب الفلسطيني، ويعتبر الصهيونية حركة عنصرية فاشية. وأما الكلمة الذهبية فقد كانت المفردة الفرنسية Caduc، المصطلح القانوني المراوغ الذي يشتمل على أكثر من معنى، ولكنه يصف محتوى واحداً وحيداً هو أنّ الميثاق باطل أو في حكم الباطل، لأنه تقادم بذاته، ولأنّ الزمن عفا عليه وألغاه قبل أن تلغيه شرائع البشر.

والأرجح أن الزعيم الفلسطيني الراحل ضحك في عبّه، وقال ما معناه: غالي والطلب رخيص! وبالفعل، في مؤتمر صحفي حاشد أطلق "الختيار" الكلمة التي تؤكد على "ختيرة" الميثاق، وفي الأساس كان مندوب المنظمة في باريس آنذاك، ابراهيم الصوص، قد اعتبر الميثاق باطلاً بحكم الأمر الواقع وبحكم قرارات المجلس الوطني في الجزائر، كما أوضح محمد حسنين هيكل في كتابه "الأقنية السرية". باطل بالتقادم والختيرة. باطل بحكم الأمر الواقع. باطل لأنّ حكاية الكفاح المسلح دخلت متحف التاريخ من الأبواب الخلفية. وباطل لأنّ الأمم المتحدة سحبت قرارها الذي يعتبر الصهيونية حركة عنصرية.

ولقد سال مداد كثير في وصف محاسن هذا الزعيم ومساوئه، خصوصاً بسط الحماية على تلك الحلقة الضيّقة التي قرّبها منه، وأطلق لها اليد في الفساد والإفساد والتسلّط والترهيب، ومحاكاة مختلف جرائم الاستبداد العربي. ولكنّ الأخلاق البسيطة، فضلاً عن موضوعية الوقائع ذاتها، تقتضي عدم التقليل أبداً من حجم المأزق الذي عاشه عرفات في السنوات التي سبقت رحيله، من جانب أوّل؛ ومقدار المرّات التي دُفع فيها إلى الجدار الأخير، أو حُشر في الزاوية الأضيق، من جانب ثانٍ.

ولعلّ عرفات قد استعاد برهة العام 1989 تلك، حين حلّقت طائرته في سماء باريس، قبل أن تحطّ في باحة المشفى العسكري الذي سيشهد نهاية الرمز الفلسطيني المعاصر الأعلى، بعيداً عن ثرى فلسطين. صحيح أنها لم تكن أبرز محطات حياته الحافلة، وثمة ما يفوقها في الرمز والدلالة والعاقبة، غير أنّ المكان كان بالمكان يذكّر، والسياق بالسياق أيضاً.

.. خاصة في هذه الأيام، حين يُفتقد "الختيار" والليالي حالكة السواد، مدلهمة، عاصفة!